وقيل لأعرابي: ما بلغ من حبك لفلانة؟ قال: إني لأذكرها وبيني وبينها عقبة الطائف، فأجد من ذكرها رائحة المسك.
وقيل: رأى شبيب أخو بثينة جميلا عندها، فوثب عليه وآذاه، ثم إن شبيبا أتى مكة وجميل فيها، فقيل لجميل دونك شبيبا، فخذ بثأرك منه فقال:
وقالوا يا جميل أتى أخوها ... فقلت أتى الحبيب أخو الحبيب
وأنشد الأخفش الحداد يقول:
مطارق الشوق منها في الحشى أثر ... يطرقن سندان قلب حشوه الفكر
ونار كور الهوى في الجسم موقدة ... ومبرد الحبّ لا يبقي ولا يذر «١»
وفي الجليس الأنيس لأبي العالية الشامي قال: سأل أمير المؤمنين المأمون يحيى بن أكثم عن العشق ما هو؟
فقال: هو سوانح تسنح للمرء، فيهيم بها قلبه وتؤثرها نفسه، وقال ثمامة: العشق جليس ممتع، وأليف مؤنس وصاحب ملك مسالكه ضيقة ومذاهبه غامضة، وأحكامه جائرة، ملك الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والعقول وآراءها، وأعطي عنان طاعتها وقوة تصريفها، توارى عن الأبصار مدخله، وخفي في القلوب مسلكه.
وكان شيخ بخراسان له أدب وحسن معرفة بالأمور قال لسليمان بن عمرو ومن معه: أنتم أدباء، وقد سمعتم الحكمة ولكم حداء ونغم، فهل فيكم عاشق؟ قال: لا.
قال: اعشقوا، فإن العشق يطلق اللسان، ويفتح جبلة البليد، والبخيل، ويبعث على التلطف وتحسين اللباس وتطييب المطعم، ويدعو إلى الحركة والذكاء، وتشريف الهمة.
وقال المجنون:
قالت جننت على ذكري فقلت لها ... الحبّ أعظم ممّا بالمجانين
الحبّ ليس يفيق الدهر صاحبه ... وإنّما يصرع المجنون في الحين
قال ذو الرياستين: إن بهرام جور كان له ابن وكان قد رشحه للأمر من بعده، فنشأ الفتى ناقص الهمة ساقط المروءة خامل النفس مسيء الأدب، فغمه ذلك، فوكل به من المؤدبين والمنجمين والحكماء من يلازمه ويعلمه وكان يسألهم عنه، فيحكون له ما يغمه من سوء فهمه وقلة أدبه إلى أن سأل بعض مؤدبيه يوما، فقال له المؤدب: قد كنا نخاف سوء أدبه فحدث من أمره ما صيرنا إلى الرجاء في فلاحه، قال: وما ذاك الذي حدث؟ قال: رأى ابنة فلان المرزبان، فعشقها، فغلبت عليه، فهو لا يهدأ إلا بها ولا يتشاغل إلا بها، فقال بهرام: الآن رجوت فلاحه، ثم دعا بأبي الجارية، فقال له: إني مسر إليك سرا، فلا يعدوك، فضمن له ستره، فأعلمه ان ابنه قد عشق ابنته، وانه يريد أن ينكحها أياه، وأمره أن يأمرها بإطماعه في نفسها ومراسلته من غير أن يراها، وتقع عينه عليها، فإذا استحكم طمعه فيها تجتنبه وتهجره، فإن استعلمها أعلمته أنها لا تصلح إلا لملك، ثم لتعلمني خبرها وخبره، ولا تطلعهما على ما أسره إليك، فقبل أبوها ذلك منه، ثم قال للمؤدب، والموكل بأدبه حضه وشجعه على مراسلة المرأة، ففعل ذلك، وفعلت المرأة كما أمرها أبوها فلما انتهت إلى التجني عليه، وعلم الفتى السبب الذي كرهته لأجله أخذ في الأدب وطلب الحكمة والعلم والفروسية والرماية وضرب الصولجان حتى مهر في ذلك.
ثم رفع إلى أبيه أنه محتاج إلى الدواب والآلات والمطاعم والملابس والندماء، وما أشبه ذلك. فسر الملك بذلك، وأمر له بما طلب، ثم دعا مؤدبه، فقال له:
إن الموضع الذي وضع به ابني نفسه من خبر هذه المرأة لا يدري به، فتقدم إليه وأمره أن يرفع أمرها إليّ ويسألني أن أزوجه إياها، ففعل المؤدب ذلك، فرفع الفتى ذلك لأبيه، فدعا بأبيها وزوجه إياها وأمر بتعجيلها إليه، وقال:
إذا اجتمعت أنت وهي فلا تحدث شيئا حتى أصير إليك، فلما اجتمعا صار إليه، فقال: يا بني لا يضعن قدرها عندك مراسلتها إياك، وليست في خبائك، فإني أمرتها بذلك وهي أعظم الناس منة عليك بما دعتك إليه من طلب الحكمة والتخلق بأخلاق الملوك حتى بلغت الحد الذي تصلح معه للملك من بعدي فزدها من التشريف والإكرام بقدر ما تستحق منك، ففعل الفتى وعاش مسرورا بالجارية، وعاش أبوه مسرورا به وأحسن ثواب أبيها، ورفع منزلته لصيانة سره، وأحسن جائزة المؤدب لامتثال ما أمر به.