وكانت له امرأة تكرهه، فاتبعته نواة وقالت: شط نواك ونأى سفرك، ثم أتبعته روثة وقالت: رثتك أهلك وورث خيرك، ثم أتبعته حصاة، وقالت: حاص رزقك وحص أثرك. ودعا أعرابي على آخر فقال: أطفأ الله ناره وخلع نعليه، أي جعله أعمى مقعدا. ودعا أعرابي على آخر فقال: سقاه الله دم جوفه أي قتل ابنه، وأخذ ديته فشرب لبنها. ودعا أعرابي على آخر فقال: بعث الله عليه سنة فاشورة تحلقه كلما يحلق الشعر بالنورة، ودعا رجل على أمير فقال:
أزال الله دولته سريعا ... فقد ثقلت على عنق الليالي
وقالت امرأة من بني ضبة في زوجها:
وما دعوت عليه حين ألعنه ... إلا وآخر يتلوه بآمين
فليته كان أرض الروم منزله ... وليتني قبله قد صرت للصين
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الأحزاب: «اللهم كلّ سلاحهم واضرب وجوههم ومزقهم في البلاد تمزيق الريح للجراد» . ودعا رجل، فقال: اللهم أكفنا أعداءنا ومن أرادنا بسوء، فلتحط به ذلك السوء إحاطة القلائد بترائب الولائد، ثم أرسخه على هامته كرسوخ السجّيل على هام أصحاب الفيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ولنختم هذا الباب بهذا الدعاء المبارك وهو: اللهم إنك عرفتنا بربوبيتك وغرقتنا في بحار نعمتك، ودعوتنا إلى دار قدسك ونعمتنا بذكرك وأنسك، إلهي إن ظلمة ظلمنا لنفوسنا قد عمت، وبحار الغفلة على قلوبنا قد طمت، والعجز شامل والحصر حاصر والتسليم أسلم، وأنت بالحال أعلم، إلهي ما عصيتك جهلا بعقابك ولا تعرضا لعذابك، ولكن سولتها نفوسنا وأعانتنا شقوتنا وغرنا سترك علينا وأطمعنا عفوك وبرك بنا، فالآن من عذابك من ينقذنا؟ وبحبل من نعتصم إن قطعت حبلك عنا؟ واخجلتاه غدا من الوقوف بين يديك، وافضيحتاه إن عرضت فعالنا القبيحة عليك، اللهم اغفر ما علمت ولا تهتك ما سترت.
إلهي إن كنا عصيناك بجهل فقد دعوناك بعقل حيث علمنا أن لنا ربا يغفر لنا ولا يبالي، إلهي لا تحرق بالنار وجها كان لك مصليا ولسانا كان لك ذاكرا وداعيا، بالذي دلنا عليك وأمرنا بالخشوع بين يديك وهو محمد صلى الله عليه وسلم خاتم أنبيائك وسيد أصفيائك، فإن حقه علينا أعظم الحقوق بعد حقك، كما أن منزلته لديك أشرف المنازل، فهو سيد خلقك، ومعدن أسرارك، صل يا رب على محمد وآله وأصحابه وارحم عبادا غرهم طول إمهالك، وأطمعهم كثرة أفضالك، فقد ذلوا لعزك وجلالك ومدوا أكفهم لطلب نوالك، ولولا ذلك لم يصلوا إلى ذلك، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولكل المسلمين أجمعين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب الثامن والسبعون في القضاء والقدر وأحكامه والتوكل على الله عز وجل
إعلم أن كل ما يجري في العالم من حركة وسكون وخير وشر ونفع وضر وإيمان وكفر وطاعة ومعصية، فكلّ بقضاء الله وقدره، وكذلك فلا طائر يطير بجناحيه ولا حيوان يدب على بطنه ورجليه، ولا تطن بعوضة ولا تسقط ورقة إلا بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته، كما لا يجري شيء من ذلك إلا وقد سبق علمه به. واعلم أن كل ما قضاه الله تعالى وقدره، فهو كائن لا محالة كما أن ما في علم الله تعالى يكون فهو كائن قريب، وما قدر الله وصوله إليك بعد الطلب فهو لا يصل إليك إلا بالطلب، والطلب أيضا من القدر فإن تعسر شيء فبتقديره، وإن اتفق شيء فبتيسيره، فمن رام أمرا من الأمور ليس الطريق في تحصيله أنه يغلق بابه عليه ويفوض أمره لربه، وينتظر حصول ذلك الأمر، بل الطريق أن يشرع في طلبه على الوجه الذي شرعه له فيه.
وقد ظاهر النبي صلى الله عليه وسلم بين درعين «١» واتخذ خندقا حول المدينة حين تحزبت عليه الأحزاب يحترس به من العدو وأقام الرماة يوم أحد ليحفظوه من خالد بن الوليد، وكان يلبس لأمة الحرب ويهيىء الجيوش ويأمرهم وينهاهم لما فيه من مصالحهم، واسترقى وأمر بالرقية، وتداوى وأمر بالمداواة، وقال: الذي أنزل الداء أنزل الدواء، فإن قيل:
قد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من استرقى أو اكتوى فهو بريء من التوكل، قلنا: أليس قد قال: أعقلها وتوكل. فإن قيل:
فما الجمع بين ذلك؟ قلنا: معناه من استرقى أو اكتوى متكلا على الرقية أو الكي، وإن البرء من قبلهما خاصة،