وتنقصه «١» ، فقال: مهلا أيها الملك إن الرجال ليسوا بعظم أجسامهم، وإنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، إن نطق نطق ببيان، وإن صال صال بجنان «٢» ، ثم أنشأ يقول:
يا أيّها الملك المرجوّ نائله ... إنّي لمن معشر شمّ الذرى زهر «٣»
فلا تغرّنّك الأجسام إنّ لنا ... أحلام عاد وإن كنّا إلى قصر
فكم طويل إذا أبصرت جثته ... تقول هذا غداة الروع ذو ظفر «٤»
فإن ألمّ به أمر فأفظعه ... رأيته خاذلا بالأهل والزّمر «٥»
فقال: صدقت، فهل لك علم بالأمور، قال: إني لأنقض منها المفتول، وأبرم منها المحلول، وأجيلها حتى تجول، ثم أنظر فيها إلى ما تؤول، وليس للدهر بصاحب من لا ينظر في العواقب. قال: فتعجب النعمان من فصاحته وعقله، ثم أمر له بألف ناقة وقال له: يا سعد إن أقمت واسيناك، وإن رحلت وصلناك، فقال: قرب الملك أحب إليّ من الدنيا وما فيها، فأنعم عليه وأدناه، وجعله من أخص ندمائه.
وحكي: أن هرقل ملك الروم كتب إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه يسأله عن الشيء ولا شيء، وعن دين لا يقبل الله غيره، وعن مفتاح الصلاة، وعن غرس الجنة، وعن صلاة كل شيء، وعن أربعة فيهم الروح، ولم يركضوا في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وعن رجل لا أب له، وعن رجل لا أم له، وعن قبر جرى بصاحبه، وعن قوس قزح ما هو، وعن بقعة طلعت عليها الشمس مرة واحدة ولم تطلع عليها قبلها ولا بعدها، وعن ظاعن ظعن مرة واحدة، ولم يظعن قبلها ولا بعدها، وعن شجرة نبتت من غير ماء، وعن شيء تنفس ولا روح له، وعن اليوم وأمس وغد وبعد غد، وعن البرق والرعد وصوته، وعن المحو الذي في القمر. فقيل لمعاوية لست هناك ومتى أخطأت في شيء من ذلك سقطت من عينه، فاكتب إلى ابن عباس يخبرك عن هذه المسائل، فكتب إليه، فأجابه، أما الشيء فالماء، قال الله تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ
«٦» . وأما لا شيء فإنها الدنيا تبيد وتفنى، وأما دين لا يقبل الله غيره، فلا إله إلا الله، وأما مفتاح الصلاة، فالله أكبر، وأما غرس الجنة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وأما صلاة كل شيء، فسبحان الله وبحمده، وأما الأربعة الذين فيهم الروح، ولم يركضوا في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فآدم وحواء وناقة صالح وكبش إسماعيل، وأما الرجل الذي لا أب له فالمسيح، وأما الرجل الذي لا أم له، فآدم عليه السلام، وأما القبر الذي جرى بصاحبه، فحوت يونس عليه السلام سار به في البحر. وأما قوس قزح فأمان من الله لعباده من الغرق، وأما البقعة التي طلعت عليها الشمس مرة واحدة، فبطن البحر حين انفلق لبني إسرائيل، وأما الظاعن الذي ظعن مرة ولم يظعن قبلها ولا بعدها، فجبل طور سيناء كان بينه وبين الأرض المقدسة أربع ليال، فلما عصت بنو إسرائيل أطاره الله تعالى بجناحين، فنادى مناد إن قبلتم التوراة كشفته عنكم ولا ألقيته عليكم، فأخذوا التوراة معذرين، فرده الله تعالى إلى موضعه، فلذلك قوله تعالى:
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ
«٧» الآية. وأما الشجرة التي نبتت من غير ماء، فشجرة اليقطين التي أنبتها الله تعالى على يونس عليه السلام، وأما الشيء الذي يتنفس بلا روح، فالصبح. قال الله تعالى: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ ١٨
«٨» . وأما اليوم، فعمل، وأمس فمثل، وغد فأجل، وبعد غد فأمل. وأما البرق فمخاريق بأيدي الملائكة تضرب بها السحاب، وأما الرعد، فاسم الملك الذي يسوق السحاب وصوته زجره، وأما المحو الذي في القمر، فقول الله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً
«٩» . ولولا ذلك المحو لم يعرف الليل من النهار، ولا النهار من الليل.
ودعا بعض البلغاء لصديق له، فقال: تمم الله عليك ما أنت فيه، وحقق ظنك فيما ترجوه، وتفضل عليك بما لم تحتسبه.