اعلم أن الله، سبحانه، أنزل القرآن مثاني، بين إجمال وتفصيل، وبين إفصاح وإفهاء. يفهم نبؤه عنه، تعالى، إفصاحا نبأه عن عبده إفهاما، لمقابلة ما بين العبد والرب، يفهم نبؤه عن عبده إفصاحا نبأه عنه تعالى، إفهاما، وكذلك فيما بين دنيا العبد العاجلة، والأخرى الآجلة، وكذلك فيما بين هداه وإضلاله، وفتنته ورحمته، وبين كل متقابلين من خلقه وأمره، وكذلك فيما بين آيات الإعتبار من أمر الخلق، ومعتبراتها من أمر الحق، ولايكاد هذا النحو من البيان يقع شيء منه في بيان الخلق ولا بلاغتهم، إلا نادرا؛ لمقصد اللحن به، والإلغاز بإفهامه، فمتى أنبأ عنه، تعالى، أخذ القاهم مقابل ما يتلو إفصاحا في قلبه عن العبد مفهوما، فيملأ القرآن قلبه بإفهامه، ويملأ سمعه بإفصاحه، فإفهامه إسراره للقلوب الفهمة، وإفصاحه إعلانه للأسماع الواعية، فيسمعه من ربه سرا وعلانية، وهذا من أجل قوانين فهمه وإحصاء علمه.
وأما ما يقع فيه الإفهام في متقابلات ظاهرة يقع البيان عن أحدها إفصاحا، ويلازمه الآخر إفهاما، فربما وقع لآحاد من بلغاء العرب نظيره، وهو في القرآن كثير، وفي بلاغات العرب قليل، وأمثلة ذلك بالمشافهة بها أولى، لما يعلمه الله.