الكتاب بالحق إلا عن إشادة بإكراهه عليه، فهو محمود بما هو منهى عنه، لأن خطابه أبدا في ذلك في القرآن فيما بين الفضل والعدل، وخطاب سائر الخلق جار فيما بين العدل والجور، فبين الخطابين ما بين درج العلو ودرك السفل في مقتضى الخطابين المتشابهين في القول، المتباينين في العلم - انتهى.
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} ولذلك
قال الْحَرَالِّي في إنبائه تحققهم بعيان ما ذكر لهم من أمره، لأن العارف بالشيء هو الذي كان له به أدراك ظاهر بأدلة، تم أنكره لاشتباهه عليه، ثم عرفه لتحقق ذكره، لما تقدم من ظهوره في إدراكه، فلذلك معنى المعرفة لتعلقها بالحس، وعيان القلب أتم من العلم المأخوذ عن علم بالفكر، وإنما لم تجز في أوصاف الحق لما في معناها من شرط النكرة، ولذلك يقال: المعرفة حد بين علمين: علم علي تشهد الأشياء ببواديها، وعلم دون يستدل على الأشياء بأعلامها.
وفيه أي التشبيه بالأبناء إنباء باتصال معرفتهم به كيانا كيانا إلى ظهوره، ولو لم يكن شاهده عليهم إلا ارتحالهم من بلادهم من الشام إلى محل الشدائد من أرض الحجار لارتقابه وانتظاره {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} وأجرى المثل بذكر الأبناء لاشتداد عناية الوالد بابنه لاعتلاقه بفؤاده، ففيه إنباء بشدة اعتلاقهم به قبل كونه {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ} أي أهل الكتاب {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} أي يخفونه ولا يعلنونه.
ولما كان لا يلزم من ذلك علمهم به، ولا يلزم من علمهم به استحضاره عند الكتمان قال:{وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي أنه حق، وأنهم آثمون بكتمانه، فجعلهم أصنافا: صنفا عرفوه فاتبعوه، وصنفا عرفوه فأنكروه، كما في إفهامه، وفريقا عرفوه فكتموه، وفي تخصيص