للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِإِرَادَتِهِ كُلَّ مَحْبُوبٍ وَمَوْهُوبٍ الْمُتَعَالِي بِجَلَالِ صَمَدِيَّتِهِ عَنْ مُشَابَهَةِ كُلِّ مَرْبُوبٍ بَارِئِ النَّسَمِ وَخَالِقِ الْأُمَمِ وَمُجْرِي الْقَلَمِ فِي الْقِدَمِ بِمَا هُوَ أَعْلَمُ بِقُدْرَتِهِ عَلَى وَفْقِ مَشِيئَتِهِ أَعْطَى وَمَنَعَ وَخَفَضَ وَرَفَعَ وَضَرَّ وَنَفَعَ فَلَا مُشَارِكَ لَهُ فِي إنْعَامِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ وَلَا مُعَانِدَ لَهُ فِي أَحْكَامِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَلَا مُنَازِعَ لَهُ فِي إبْرَامَاتِهِ وَأَقْضِيَتِهِ وَأَلْزَمَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ

ــ

[حاشية العدوي]

وَهُوَ مِنْ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ تَنْبِيهًا عَلَى شِدَّةِ الْحِفْظِ مِنْ مَعَاصِي الْقُلُوبِ شَاهِدُهُ «إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً» إلَخْ (قَوْلُهُ بِإِرَادَتِهِ) الْبَاءُ دَاخِلَةٌ عَلَى الْمَقْصُورِ عَلَيْهِ أَيْ كُلَّ مَحْبُوبٍ وَمَوْهُوبٍ مِنْهُ أَيْ وَغَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّ إرَادَتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِكُلِّ مُمْكِنٍ مُخْتَصٍّ بِإِرَادَتِهِ لَا يَخْرُجُ عَنْهَا إلَى إرَادَةِ الْعَبْدِ لَا الْمَقْصُورِ وَإِلَّا جَاءَ مَذْهَبُ الِاعْتِزَالِ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ غَيْرَ الْخُيُورِ مِنْ الشَّرَائِرِ وَالْقَبَائِحِ.

وَأَشَارَ الشَّارِحُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَنَفَعَنَا بِهِ إلَى أَنَّ مَا أَصَابَك مِنْ حَسَنَةٍ فَالْمَطْلُوبُ مِنْك أَنْ تُلَاحِظَ أَنَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ فَضْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَنْسُبُهُ إلَى نَفْسِك بِخِلَافِ السَّيِّئَةِ فَلَا تُضِفْهَا لِلْمَوْلَى بَلْ أَضِفْهَا لِنَفْسِك، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: ٧٩] وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِإِرَادَتِهِ رَحْمَتَهُ فَيَكُونُ إشَارَةً لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ أَيْ الْمُخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ أَيْ إنْعَامِهِ الْمَصْحُوبِ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ كُلَّ شَخْصٍ مَحْبُوبٍ وَمَوْهُوبٍ لَهُ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ أَيْ عَلَى اللُّغَةِ الْفُصْحَى، وَأَمَّا عَلَى غَيْرِهَا مِنْ قَوْلِك وَهَبْت زَيْدًا ثَوْبًا فَلَا حَذْفَ فِي مَوْهُوبٍ وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ فَتَكُونُ دَاخِلَةً عَلَى الْمَقْصُورِ (قَوْلُهُ الْمُتَعَالِي) أَيْ الْمُتَنَزِّهُ (قَوْلُهُ بِجَلَالٍ) أَيْ بِسَبَبِ عَظَمَةِ صَمَدِيَّتِهِ ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ حَقِيقِيَّةً وَأَنْ تَكُونَ مِنْ إضَافَةِ مَا كَانَ صِفَةً وَقَوْلُهُ صَمَدِيَّتِهِ أَيْ رِفْعَتِهِ أَوْ كَوْنِهِ يُقْصَدُ فِي الْحَوَائِجِ وَقَوْلُهُ " عَنْ مُشَابَهَةِ " مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ الْمُتَعَالِي كَانَتْ الْمُشَابَهَةُ فِي الذَّاتِ أَوْ الصِّفَةِ أَوْ الْأَفْعَالِ وَقَوْلُهُ كُلِّ مَرْبُوبٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِقَوْلِهِ مُشَابَهَةِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ أَيْ الْمُتَنَزِّهَ عَنْ مُشَابَهَةِ كُلِّ مَرْبُوبٍ لَهُ وَأَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا أَيْ الْمُتَنَزِّهَ عَنْ كَوْنِهِ يُشَابِهُ كُلَّ مَرْبُوبٍ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمُوَافَقَةِ قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: ١١] وَمَعْنَى مَرْبُوبٍ مَمْلُوكٍ كَمَا فِي الْقَامُوسِ أَيْ مَخْلُوقٍ (قَوْلُهُ بَارِئِ النَّسَمِ) مَعْنَاهُ الْمُنْشِئُ مِنْ الْعَدَمِ قَالَهُ فِي الْجَلَالَيْنِ وَالنَّسَمُ جَمْعُ نَسَمَةٍ وَهِيَ الْإِنْسَانُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَفِي الْمِصْبَاحِ النَّسِيمُ نَفْسُ الرِّيحِ وَالنَّسَمَةُ مِثْلُهُ ثُمَّ سُمِّيَتْ بِهَا النَّفْسُ بِالسُّكُونِ وَالْجَمْعُ نَسَمٌ مِثْلَ قَصَبَةٍ وَقَصَبٍ وَاَللَّهُ الْبَارِئُ أَيْ خَالِقُ النُّفُوسِ انْتَهَى وَعَلَيْهِ فَالنَّسَمُ لَا يَخْتَصُّ بِالْإِنْسَانِ بَلْ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْحَيَوَانِ

(قَوْلُهُ وَخَالِقِ الْأُمَمِ) بَيْنَ خَالِقٍ وَبَارِئٍ التَّرَادُفُ وَتَفَنَّنَ فِي التَّعْبِيرِ دَفْعًا لِلثِّقَلِ الْحَاصِلِ مِنْ تَكْرَارِ اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ أَنْ لَوْ عَبَّرَ بِبَارِئٍ فِيهِمَا أَوْ بِخَالِقٍ وَالْأُمَمُ جَمْعُ أُمَّةٍ تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ نَوْعٍ مِنْ الْحَيَوَانِ وَعَلَى أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ وَكُلٌّ يَصِحُّ وَلَهَا اطِّلَاقَاتٌ أُخَرُ إلَّا أَنَّ الْمُنَاسِبَ لِلْمَقَامِ مَا قُلْنَا (قَوْلُهُ وَمُجْرِي الْقَلَمِ) أَيْ مُصَيِّرِ الْقَلَمِ جَارِيًا فِي اللَّوْحِ مِنْ غَيْرِ مُمْسِكٍ وَقَدْ انْقَطَعَ إنْ قُلْنَا بِأَنَّ مَا فِي اللَّوْحِ لَا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ، وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ وَالتَّبْدِيلَ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فَلَمْ يَنْقَطِعْ وَقَوْلُهُ فِي الْقِدَمِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ عَدَمَ الْأَوَّلِيَّةِ وَإِلَّا لَزِمَ أَنَّ الْجَرَيَانَ قَدِيمٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ حَادِثٌ بَلْ الْمُرَادُ بِالْقِدَمِ مَا تَقَدَّمَ فِيمَا لَا يَزَالُ بِغَايَةِ الْبُعْدِ.

(قَوْلُهُ بِمَا هُوَ أَعْلَمُ) أَيْ بِمَا هُوَ عَالِمٌ بِهِ أَزَلًا فَأَفْعَلُ لَيْسَ عَلَى بَابِهِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمُجْرِي وَقَوْلُهُ بِقُدْرَتِهِ مُتَعَلِّقٌ بِمُجْرِي كَالْأُولَى إلَّا أَنَّهَا لِلسَّبَبِيَّةِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْقَلَمِ لِلْكَاتِبِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَالْأَوْلَى لِلْمُلَابَسَةِ فَلَا يَلْزَمُ تَعَلُّقُ حَرْفَيْ جَرٍّ مُتَّحِدِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى بِعَامِلٍ وَاحِدٍ (قَوْلُهُ عَلَى مُوَافَقَةٍ) إشَارَةٌ لِمَا قَرَّرَ فِي أُصُولِ الدِّينِ مِنْ أَنَّ تَأْثِيرَ الْقُدْرَةِ فَرْعُ تَأْثِيرِ الْإِرَادَةِ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ بِمَشِيئَتِهِ أَيْ مَشِيئَةِ الْإِجْرَاءِ فَيُعَمَّمُ فِي مُتَعَلِّقِ الْعِلْمِ فَيَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالْمُسْتَحِيلَ وَالْمُمْكِنَ غَيْرَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى كُنْهِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَكْتُوبًا فِي اللَّوْحِ.

(قَوْلُهُ أَعْطَى إلَخْ) جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ أَشَارَ بِهَا إلَى اسْتِقْلَالِ اللَّهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي كُلِّ شَيْءٍ أَوْ أَنَّهَا تَفْرِيعٌ فِي الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِهِ وَمُجْرِي الْقَلَمِ إلَخْ أَيْ أَجْرَى الْقَلَمَ فَأَعْطَى وَمَنَعَ وَخَفَضَ وَرَفَعَ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ، وَهُوَ الطِّبَاقُ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ أَيْ حَصَلَ مِنْهُ الْإِعْطَاءُ وَالْمَنْعُ أَوْ أَعْطَى قَوْمًا وَمَنَعَ آخَرِينَ وَكَذَا يُقَالُ فِيمَا بَعْدُ، ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِمَا أَعْطَى وَمَا مَنَعَ خُصُوصُ الْإِيمَانِ وَأَنْ يُرَادَ مُطْلَقُ مُعْطٍ (قَوْلُهُ وَخَفَضَ وَرَفَعَ) أَيْ خَفَضَ قَوْمًا وَرَفَعَ آخَرِينَ أَوْ وَقَعَ مِنْهُ الْخَفْضُ وَالرَّفْعُ أَيْ بِالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ أَوْ مُطْلَقًا، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ فِي ذَلِكَ مَجَازٌ كَمَا أَفَادَهُ الْأَسَاسُ؛ لِأَنَّهُمَا حَقِيقَةٌ فِيمَا كَانَ مَحْسُوسًا (قَوْلُهُ فَلَا مُشَارِكَ لَهُ إلَخْ) تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَقَوْلُهُ فِي إنْعَامِهِ الْأُولَى فِي الْإِنْعَامِ إذْ عِبَارَتُهُ لَا تَنْفِي إلَّا أَنْ يَكُونَ مُنَعِّمٌ آخَرَ مُشَارِكًا لِمَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ فِي الْإِنْعَامِ الْمُضَافِ لَهُ وَلَا تَنْفِي أَنْ يَكُونَ مُنَعِّمٌ آخَرُ مُشَارِكًا لِمَوْلَانَا فِي مُطْلَقِ الْإِنْعَامِ مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ الْمُشَارِكِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْإِنْعَامِ الْمُضَافِ إلَيْهِ أَوْ لَا فَتَدَبَّرْ.

وَكَذَا نَقُولُ فِي قَوْلِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ وَلَا يُقَالُ إنَّ أَلْ نَائِبَةٌ عَنْ الضَّمِيرِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَيْسَ ذَلِكَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ وَالْإِنْعَامُ مِنْ آثَارِ الْأُلُوهِيَّةِ فَالْمُنَاسِبُ تَأْخِيرُهُ عَنْهَا إلَّا أَنَّهُ قَدَّمَهُ لِلسَّجْعِ (قَوْلُهُ وَأُلُوهِيَّتِهِ) أَيْ كَوْنِهِ إلَهًا أَيْ مَعْبُودًا بِحَقٍّ (قَوْلُهُ وَلَا مُعَانِدَ) أَيْ مُعَارِضَ فِي الْمِصْبَاحِ الْمُعَانِدُ الْمُعَارِضُ بِالْخِلَافِ لَا بِالْوِفَاقِ وَالْمُعَارِضُ غَيْرُ الشَّرِيكِ فَهُوَ عَطْفُ مُغَايِرٍ (قَوْلُهُ فِي أَحْكَامِهِ) الْخَمْسَةِ أَوْ أَقْضِيَتِهِ (قَوْلُهُ وَرُبُوبِيَّتِهِ) أَيْ كَوْنِهِ رَبًّا أَيْ مَالِكًا لِلْعَالَمِ (قَوْلُهُ وَلَا مُنَازِعَ لَهُ) مُرَادِفٌ لِقَوْلِهِ وَلَا مُعَانِدَ.

(قَوْلُهُ فِي إبْرَامَاتِهِ) جَمْعُ إبْرَامٍ أَيْ تَحْتِيمِهِ أَيْ حُكْمِهِ وَقَوْلُهُ وَأَقْضِيَتِهِ جَمْعُ قَضَاءٍ، وَهُوَ إرَادَةُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقَةُ أَزَلًا تَنْجِيزًا، وَهُوَ عَطْفُ تَفْسِيرٍ أَوَيُرَادُ بِالْإِبْرَامَاتِ تَعَلُّقَاتُهَا التَّنْجِيزِيَّةُ أَزَلًا فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْكُلِّيِّ عَلَى الْجُزْئِيِّ (قَوْلُهُ وَأَلْزَمَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ أَعْطَى أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ أَيْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: ١] وَقَوْلُهُ الْمُؤْمِنِينَ خَصَّهُمْ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ الْمُنْتَفِعِينَ بِذَلِكَ وَإِلَّا فَالْكُفَّارُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>