قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَهُ لِلْغُرَمَاءِ فِي دَيْنِهِ فَهَلْ يُنْتَزَعُ مِنْهُ ذَلِكَ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِوَجْهٍ جَائِزٍ؟ فِيهِ تَرَدُّدٌ لِلَّخْمِيِّ وَحْدَهُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (ص) وَفِي غَارِمٍ يَسْتَغْنِي تَرَدُّدٌ (ش) وَلَا وَجْهَ لِحِكَايَةِ التَّرَدُّدِ، وَالْمُنَاسِبُ لِاصْطِلَاحِهِ أَنْ يَقُولَ: وَاخْتَارَ أَخْذَهَا مِنْ غَارِمٍ اسْتَغْنَى ثُمَّ إنَّ التَّعْبِيرَ بِنُزِعَتْ يَقْتَضِي أَنَّهَا بَاقِيَةٌ، فَلَوْ ذَهَبَتْ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِهَا وَهَذَا بِخِلَافِ الْغَازِي فَإِنَّهَا تُنْزَعُ مِنْهُ إنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً، وَتَكُونُ عَلَيْهِ إنْ تَلِفَتْ.
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْأَصْنَافِ شَرَعَ يَتَكَلَّمُ عَلَى كَيْفِيَّةِ الدَّفْعِ إلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:
(ص) وَنُدِبَ إيثَارُ الْمُضْطَرِّ دُونَ عُمُومِ الْأَصْنَافِ (ش) يَعْنِي أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلْمُتَوَلِّي تَفْرِقَةُ الزَّكَاةِ إمَامًا أَوْ مَالِكًا إيثَارُ الْمُضْطَرِّ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْبُلْدَانِ وَالْأَصْنَافِ عَلَى بَعْضِهَا وَإِفْرَادُ كُلِّ صِنْفٍ عَلَى بَقِيَّتِهَا بِأَنْ يُزَادَ فِي إعْطَائِهِ، وَأَمَّا عُمُومُ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَعُمَّهَا عِنْدَ وُجُودِهَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ، وَلَا يُنْدَبُ أَيْضًا فَيَجُوزُ دَفْعُ جَمِيعِهَا الصِّنْفُ وَاحِدٌ مَعَ إمْكَانِ تَعْمِيمِهِمْ، وَلَوْ الْعَامِلُ إذَا أَتَى بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ الَّذِي لَا يُسَاوِي تَعَبَهُ، وَلِشَخْصٍ وَاحِدٍ مِنْ صِنْفٍ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ اللَّامَ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: ٦٠] الْآيَةَ لِبَيَانِ الْمَصْرِفِ وَالِاسْتِحْقَاقِ أَيْ: إنَّمَا الصَّدَقَاتُ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْفُقَرَاءِ إلَخْ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الِاسْتِحْقَاقِ الْإِعْطَاءُ بِالْفِعْلِ لَا لِلْمِلْكِ، أَمَّا إنْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا صِنْفٌ وَاحِدٌ أَوْ شَخْصٌ مِنْهُ أَجْزَأَ الْإِعْطَاءُ لَهُ إجْمَاعًا وَأَوْجَبَ الشَّافِعِيُّ تَعْمِيمَ الْأَصْنَافِ إذَا وُجِدُوا، وَلَا يَجِبُ تَعْمِيمُ آحَادِهِمْ إجْمَاعًا لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ، وَاسْتَحَبَّ أَصْبَغُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ قَالَ: لِئَلَّا يَنْدَرِسَ الْعِلْمُ بِاسْتِحْقَاقِهِمْ وَلِمَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَصَالِحِ مِنْ سَدِّ الْخَلَّةِ وَالْغَزْوِ وَوَفَاءِ الدَّيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلِمَا يُوجِبُهُ مِنْ دُعَاءِ الْجَمِيعِ وَمُصَادَقَةِ وَلِيٍّ فِيهِ.
(ص) وَالِاسْتِنَابَةُ وَقَدْ تَجِبُ (ش) يَعْنِي أَنَّ الِاسْتِنَابَةَ فِي تَفْرِقَةِ الزَّكَاةِ تُسْتَحَبُّ وَيُكْرَهُ أَنْ يَلِيَهَا بِنَفْسِهِ خَوْفَ الْمَحْمَدَةِ وَالثَّنَاءِ، وَعَمَلُ السِّرِّ أَفْضَلُ وَقَدْ تَجِبُ الِاسْتِنَابَةُ عَلَى مَنْ تَحَقَّقَ وُقُوعُ الرِّيَاءِ مِنْهُ، وَمِثْلُهُ الْجَاهِلُ بِأَحْكَامِهَا وَمَصْرِفِهَا، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْإِمَامُ عَدْلًا مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ إنْ طَلَبَ فَقَالَ قَدْ أَخْرَجْتهَا فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ عَدْلًا فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ انْتَهَى.
وَمِنْ آدَابِهَا دَفْعُهَا بِالْيَمِينِ، وَدُعَاءُ الْمُصَدِّقِ وَالْإِمَامِ لِدَافِعِهَا وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَأَوْجَبَهُ دَاوُد وَقَدْ قَالَ عِيَاضٌ: فِي قَوَاعِدِهِ مِنْ آدَابِ الزَّكَاةِ أَنْ يَسْتُرَهَا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ وَقَدْ قِيلَ: الْإِظْهَارُ فِي الْفَضَائِلِ أَفْضَلُ وَنَحْوُهُ لِسَيِّدِي زَرُّوقٍ قَالَ: إلَّا أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ تَرْكَهَا فَيُسْتَحَبُّ
ــ
[حاشية العدوي]
قَوْلُهُ: تَرَدُّدٌ لِلَّخْمِيِّ وَحْدَهُ) فَإِنَّهُ قَالَ: وَفِي الْغَارِمِ يَأْخُذُ مَا يَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ، ثُمَّ يَسْتَغْنِي قَبْلَ أَدَائِهِ إشْكَالٌ، وَلَوْ قِيلَ يُنْزَعُ مِنْهُ لَكَانَ وَجْهًا، وَتَقَدَّمَ فِي الْخُطْبَةِ أَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَيَصْدُقُ بِالْوَاحِدِ كَمَا هُنَا، وَتَبَيَّنَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ اخْتَارَ أَنَّهَا تُنْزَعُ فَلَا وَجْهَ لِحِكَايَةِ التَّرَدُّدِ؛ فَلِذَا قَالَ: وَلَا وَجْهَ لِحِكَايَةِ التَّرَدُّدِ؛ لِأَنَّهُ مَالَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى النِّزَاعِ
(قَوْلُهُ: عَلَى بَعْضِهَا) بِأَنْ يُقَدِّمَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضِهَا، بِأَنْ يُقَدِّمَ هَذِهِ الْبَلَدَ عَلَى هَذِهِ الْبَلَدِ وَلَوْ كَانَا مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ: فُقَرَاءَ، أَوْ مَسَاكِينَ، وَيُقَدِّمَ صِنْفَ الْمَسَاكِينِ عَلَى صِنْفِ الْفُقَرَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالِاضْطِرَارِ شِدَّةُ الِاحْتِيَاجِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَفْرَادِ كُلِّ صِنْفٍ إلَخْ فَإِنَّ الْمَسْكَنَةَ مَقُولَةٌ بِالتَّشْكِيكِ، وَكَذَا الْفَقْرُ، وَقَوْلُهُ وَأَفْرَادُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ الْبُلْدَانِ وَقَوْلُهُ: عَلَى بَقِيَّتِهَا مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: بِأَنْ يُقَدِّمَ بَعْضَهَا عَلَى بَقِيَّتِهَا (قَوْلُهُ: وَلَا يُنْدَبُ أَيْضًا إلَخْ) إلَّا أَنْ يَقْصِدَ رَعْيَ خِلَافِ الشَّافِعِيِّ فَيَعُمُّ لِنَدْبِ مُرَاعَاتِهِ كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ (قَوْلُهُ: الَّذِي لَا يُسَاوِي تَعَبَهُ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يُسَاوِي تَعَبَهُ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُهُ قَالَ فِي ك مَا نَصُّهُ قَالَ الْحَطَّابُ: وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا لَوْ دُفِعَتْ لِصِنْفٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَ أَيْ: وَيَجُوزُ إلَّا الْعَامِلَ فَلَا يُدْفَعُ إلَيْهِ إلَّا إذَا كَانَتْ قَدْرَ عَمَلِهِ اهـ. قُلْت الَّذِي فِي كَلَامِ التَّوْضِيحِ وَالشَّارِحِ وَغَيْرِهِمَا: إنَّهَا لَا تُدْفَعُ إلَّا إذَا كَانَتْ شَيْئًا يَسِيرًا لَا يُسَاوِي عَمَلَهُ اهـ.
الْمُرَادُ مِنْهُ هَذَا مَا فِي ك، وَالظَّاهِرُ مَا لِلْحَطَّابِ مِنْ أَنَّهُ يَأْخُذُ مَا كَانَ قَدْرَ أُجْرَةِ عَمَلِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ يَسِيرًا (قَوْلُهُ: لِئَلَّا يَنْدَرِسَ الْعِلْمُ) أَيْ: يَذْهَبَ الْعِلْمُ بِاسْتِحْقَاقِهِمْ اُنْظُرْ هَذَا مَعَ أَنَّ آيَةَ الْقُرْآنِ نَاطِقَةٌ بِالْمَصَارِفِ فَكَيْفَ يَأْتِي النِّسْيَانُ؟ وَيُجَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ يَنْسَى وَلَوْ بِاعْتِبَارِ بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْسَى بِاعْتِبَارِ أَهْلِ الْقُرْآنِ، أَوْ مَنْ فِي مَعْنَاهُمْ.
(قَوْلُهُ: خَوْفَ الْمَحْمَدَةِ) أَيْ: الْحَمْدِ وَقَوْلُهُ: " وَالثَّنَاءِ " عَطْفُ تَفْسِيرٍ أَيْ: خَوْفَ حُبِّ الْمَحْمَدَةِ (قَوْلُهُ: وَعَمَلُ السِّرِّ أَفْضَلُ) أَيْ:؛ وَلِأَنَّ عَمَلَ السِّرِّ أَفْضَلُ، وَالِاسْتِنَابَةُ نَوْعٌ مِنْ السِّرِّ، وَإِنْ كَانَ النَّائِبُ قَدْ يَجْهَرُ بِهَا لَكِنْ سَيَأْتِي، يَقُولُ: وَمِنْ آدَابِهَا سَتْرُهَا عَنْ النَّاسِ (قَوْلُهُ: إذَا جَزَمَ بِقَصْدِ الْمَحْمَدَةِ) أَيْ: جَزَمَ الْآنَ بِأَنَّهُ مَتَى تَوَلَّاهَا بِنَفْسِهِ يَقْصِدُ مَدْحَ النَّاسِ لَهُ أَيْ: يُحِبُّ مَدْحَ النَّاسِ لَهُ، وَإِنَّمَا أَوْ لَنَا قَصْدُهُ بِحُبٍّ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِفِعْلِهِ لَا بِفِعْلِ غَيْرِهِ أَيْ: جَزَمَ بِحُبِّ حَمْدِ النَّاسِ لَهُ بِحَيْثُ يَصْرِفُهُ عَلَى الْعَمَلِ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْعَمَلُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنْ يَفْرَحَ بِالْمَدْحِ لِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ لِمَفْهُومِ قَوْله تَعَالَى {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران: ١٨٨] فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّهُ إنْ أَحَبَّ أَنْ يُمْدَحَ بِمَا فَعَلَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَالْبَاعِثُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ لِلْحَدِيثِ «إذَا مُدِحَ الْمُؤْمِنُ فِي وَجْهِهِ رَبَا الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ» وَيُفْهَمُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى الْجَوَازُ إذَا جَزَمَ بِأَنَّهُ إذَا تَوَلَّاهَا بِنَفْسِهِ لَا يَقْصِدُ مَدْحَ النَّاسِ لَهُ.
(قَوْلُهُ: الْمُصَدِّقِ) هُوَ السَّاعِي (قَوْلُهُ: وَالصَّلَاةُ) عَطْفٌ عَلَى الدُّعَاءِ مُرَادِفٌ (قَوْلُهُ: وَأَوْجَبَهُ دَاوُد) أَيْ: أَوْجَبَ دُعَاءَ السَّاعِي وَمَنْ مَعَهُ لِدَافِعِهَا (قَوْلُهُ: وَقَدْ قِيلَ الْإِظْهَارُ إلَخْ) الْفَضَائِلُ مُقَابِلُ الْفَرَائِضِ كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُ إذَا كَانَ إظْهَارُ الْفَضَائِلِ أَوْلَى فَلْيَكُنْ إظْهَارُ الْفَرَائِضِ أَوْلَى وَأَوْلَى، وَقَوْلُهُ وَنَحْوُهُ أَيْ: وَنَحْوُ مَا قَالَهُ عِيَاضٌ