الرشيد، وطبق الآفاق، فأرسلت بلاد التتر والهند والصين رسلاً إلى بلاطه، وأرسل عاهل الغرب الحقيقي وصاحب الحول والشوكة، الإمبراطور شارلمان، الذي كان يملك ما بين المحيط الأطلنطي ونهر الإلب، وهو الذي لم يملك غير أناس من الهمج - وفداً ليبلغ الرشيد أطيب تحياته، ويلتمس منه الحماية لحجيج القدس، فأجابه الرشيد إلى سؤاله، ورد إليه وفده مع هدايا عظيمة، ومن بينها فيل مجهز بأفخر جهاز، والفيل كانت تجهله أوربة تماماً، ولآلئ وجواهر وحلي وعاج وعطور ونسائج حريرية وساعة دقاقة تدل على الوقت، وقد قضى إمبراطور الغرب شارلمان العجب من هذه الساعة هو وحاشيته المتبربرون اللذين لم يكن بينهم من قدر على إدراك كنهها، والذين حاول شارلمان عبثاً أن يحملهم على إحياء حضارة الرومان.
وجلس الرشيد على عرش الخلافة في الثالثة والعشرين من سنيه، وكان تنظيم شؤون دولته الواسعة أول ما فكر فيه، فوصلت ولايات الدولة بوسائل نقل منظمة، وأنشئت مرابط؛ لتتمكن الرد بها من قطع المساوف الكبيرة على عجل، وغني بحمام الزاجل لربط ما بين المدن بالرسائل كما هو واقع بين بعض المدن في الوقت الحاضر، وكانت إدارة البريد ببغداد من أهم وظائف الدولة كما في أوربة الحديثة.
وكان الولاة على رأس الولايات، وكانوا يمتثلون أوامر الخليفة، وكان يقوم مقام الخليفة في الولايات النائية، كشمال إفريقية، أمراء وراثيون استقلوا مع الزمن استقلالاً تاماً.
وكانت مالية الدولة دقيقة الضبط، وكان دخل الدولة قائماً على الجزية والخراج والمكوس وإحياء الموات واستخراج المعادن، وروى مؤرخو العرب أن دخل الخلافة السنوي بلغ مئتي مليون فرنك، أي مبلغاً عظيماً في ذلك الزمن.
وكان يقوم بأعمال الجباية لجنة تدعى الديوان، قال ابن خلدون:«إن ديوان الأعمال والجبايات من الوظائف الضرورية للملك، وهي: القيام على أعمال الجبايات، وحفظ حقوق الدولة في الدخل والخرج، وإحصاء العساكر بأسمائهم وتقدير أرزاقهم وصرف أعطياتهم في إباناتها، والرجوع في ذلك إلى القوانين التي يرتبها قومة تلك الأعمال وقهارمة الدولة، وهي كلها مسطورة في كتاب شاهد بتفاصيل ذلك في الدخل والخرج مبني على جزء كبير من الحساب لا يقوم به إلا المهرة من أهل تلك الأعمال، ويسمى ذلك الكتاب بالديوان، وكذلك مكان جلوس العمال المباشرين لها.»