للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولم يلبث العرب، بعد أن كانوا تلاميذ معتمدين على كتب اليونان، أن أدركوا أن التجربة والترصد خيرٌ من أفضل الكتب ... ويعزى إلى بيكن، على العموم، أنه أول من أقام التجربة والترصد، اللذين هما ركن المناهج العلمية الحديثة، مقام الأستاذ، ولكنه يجب أن يعترف اليوم بأن ذلك كله من عمل العرب وحدهم.

ومنح اعتماد العرب على التجربة مؤلفاتهم دقةً وإبداعاً لا ينتظر مثلهما من رجل تعود درس الحوادث في الكتب ...

ونشأ عن منهاج العرب التجريبي وصولهم إلى اكتشافات مهمة ...

ولما آل العلم إلى العرب حولوه إلى غير ما كان عليه، فتلقاه ورثثهم مخلوقاً خلقاً آخر ... »

٩

ولم يقتصر فضل العرب في ميدان الحضارة على أنفسهم، فقد كان لهم الأثر البالغ في الشرق والغرب، والمشرق والمغرب مدينان لهم في تمدنهما، ولم يتفق لأمة فيهما ما للعرب من النفوذ.

ذلك ما رآه لوبون، وهو القائل: «إن الأمم التي كانت لها سيادة العالم، كالآشوريين والفرس والمصريين والأغارقة والرومان، توارت تحت أعفار الدهر ولم تنزل لنا غير أطلالٍ دارسة، وعادت أديانها ولغاتها وفنونها لا تكون سوى ذكريات، والعرب، وإن تواروا أيضاً، لم تزل عناصر حضارتهم، وإن شئت فقل: ديانتهم ولغتهم وفنونهم، حية ...

«وأنشأ العرب بسرعة حضارة جديدة كثيرة الاختلاف عن الحضارة التي ظهرت قبلها، وتمكنوا من حمل أمم كثيرة على انتحال دينهم ولغتهم وحضارتهم الجديدة، واتصلت بالعرب أممٌ قديمة كشعوب مصر والهندوس، واعتنقت معتقدات العرب وعاداتهم وطبائعهم وفن عمارتهم، واستولت بعد ذلك أمم كثيرة على الأقطار التي فتحها العرب، وظل نفوذ العرب فيها ثابتاً، ويلوح لنا أن رسوخ هذا النفوذ أبديٌ في جميع البقاع الآسيوية والإفريقية التي دخلوها، والتي تمتد من مراكش إلى الهند».

وشمل فضل العرب قاهريهم أيضاً، مع عجز هؤلاء عن الانتفاع بحضارة العرب كما كان يجب، وانتحل أكثر قاهري العرب دين العرب وفنونهم وعلومهم، واتخذ أكثرهم العربية لغة له، ولم يدر في خلد أحدهم إقامة حضارةٍ مقام حضارة العرب، فحضارة

<<  <   >  >>