للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

العرب أينما حلت ثبتت أصولها، ولم يقدر فاتح على زعزعتها، وهي من المناعة ما استطاعت أن تهيمن به على الأمم التي حاولت هدمها.

قال لوبون: «لا نرى في التاريخ أمةً ذات أثرٍ بارز كالعرب، فجميع الأمم التي اتصل العرب بهم اعتنقت حضارتهم، ولو حيناً من الزمن، ولما غاب العرب عن مسرح التاريخ انتحل قاهروهم، كالترك والمغول، إلخ، تقاليدهم وينوا للعالم ناشرين لنفوذهم، أجل، لقد ماتت حضارة العرب منذ قرون، ولكن العالم لا يعرف اليوم في البلاد الممتدة من سواحل المحيط الأطلنطي إلى الهند، ومن البحر المتوسط إلى الصحراء غير أتباع النبي ولغتهم».

وعندما تكلم العلامة لوبون عن عرب الأندلس قال: «لم يكن العرب يتمون فتح إسبانية حتى بدأوا يقومون برسالة الحضارة فيها، فاستطاعوا في أقل من قرن أن يحيوا ميت الأرضين ويعمروا خرب المدن، ويقيموا فخم المباني ويوطدوا وثيق الصلات التجارية بالأمم الأخرى، ثم شرعوا يتفرغون الدراسة العلوم والآداب، ويترجمون كتب اليونان واللاتين، وينشؤون الجامعات التي ظلت وحدها ملجأ للثقافة في أوربة زمناً طويلاً».

ثم رأي لوبون أن إسبانية هبطت إلى الدرك الأسفل من الانحطاط بعد جلاء العرب عنها، وذلك بعد قوله: «لا يسعنا سوى الاعتراف بأننا لم نجد بين وحوش الفاتحين من يؤاخذ على اقترافه مظالم قتلٍ كتلك التي اقترفت ضد المسلمين، ومما يرثي له أن حرمت إسبانية عمداً هؤلاء الملايين الثلاثة الذين كانت لهم إمامة السكان الثقافية والصناعية».

ورأى لوبون، والحق ما رأى، أن العرب مدنوا أوربة مادة وعلماً وأخلاقاً، «فقد كان عرب الأندلس يتصفون بالفروسية المثالية خلا تسامحهم العظيم، فكانوا يرحمون الضعفاء، ويرفقون بالمغلوبين، ويقفون عند شروطهم، وما إلى هذا من الخلال التي اقتبستها الأمم النصرانية بأوربة منهم مؤخراً ... وأثر عرب الأندلس في أخلاق الناس، فهم الذين علموا الشعوب النصرانية، وإن شئت فقل حاولوا أن يعلموها التسامح الذي هو أثمن ما تصبو إليه الإنسانية ... ويمكن القول بأن التسامح الديني كان مطلقاً في دور ازدهار العرب ... ومثل هذا التسامح مما لم تصل إليه أوربة بعد ما قامت به في أكثر من ألف سنة من الحروب الطاحنة، وما عانته من الأحقاد المتأصلة، وما منيت به من المذابح الدامية».

وقد أفاض العلامة لوبون في إيضاح تمدين العرب لأوربة، وانتهى إلى ما يأتي: «إنه كان للحضارة الإسلامية تأثيرٌ عظيم في العالم، وإن هذا التأثير خاص بالعرب وحدهم فلا نشاركهم فيه الشعوب الكثيرة التي اعتنقت دينهم، والعرب هم الذين هذبوا بتأثيرهم الخلقي البرابرة الذين قضوا على دولة الرومان، والعرب هم الذين فتحوا لأوربة ما كانت

<<  <   >  >>