وكانت قوة الخلفاء الحربية في بغداد تناسب أهمية دولتهم، ويمكننا اجتلاء ما كانت عليه من الهيبة في الخارج بما أكره عليه قيصر بيزنطة الوارث لعظمة اليونان والرومان من دفع الجزية حين تمتنع عن إعطائها عبثاً، فلما رفض خليفة الإمبراطورة إيرين، القيصر نيقفور، إعطاء الجزية في كتاب أرسله إلى الخليفة هارون الرشيد أجابه هارون الرشيد بالكتاب الموجز العنيف الدال على درجة الاحتقار الذي أضحى عرضة له أبناء اليونان والرومان الضعفاء، وإليكه:
بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نيقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافر، والجواب ما تراه، لا ما تسمعه.
رأى «كلب الروم» الجواب، فقد خرب هارون الرشيد بلاده تماماً، وأرغم قيصر القسطنطينية النصراني على دفع الجزية إلى أمير المؤمنين.
ومن الإنصاف أن عد سلطان العرب السياسي في عصر الرشيد وابنه المأمون أقصى ما انتهى إليه سلطان العرب في الشرق، فقد كانت بلاد الصين حداً لدولة العرب في آسية، ودحر العرب قبائل إفريقية المتوحشة إلى حدود بلاد الحبشة، ودحروا الروم إلى البسفور، ولم يقفوا في الغرب إلا عند المحيط الأطلنطي، والحق أن هؤلاء القوم الشجعان الذين لبوا دعوة محمد، وغدوا أمة واحدة، أقاموا دولة بلغت ما بلغته دولة الرمان من الاتساع في أقل من قرنين، وأن هذه الدولة بدت أكثر دول الأرض هيبة وتمدناً.
بيد أن مصير الدول الحربية العظمى المطلقة تابع لاقتدار ولاة أمورها، فإذا كان هؤلاء الولاة من العباقرة، كهارون الرشيد وابنه المأمون، أينعت تلك الدول وتقدمت، وإذا لم يكونوا أبناء بجدتها هبطت بسرعة أعظم من التي قامت بها.
ولم يكن كثيراً على أعاظم الرجال أن يحفظوا للخلافة هيبتها تجاه ما كان يبدو من تفرق كلمة العرب في أنحاء الدولة، وتجاه الأمم التي دحروها حيناً من الزمن من غير أن يقوضوا أركانها، وقد استقل البربر بعيد استقلال الأندلس، وقد أخذ الترك يقبضون بدسائسهم على السلطة التي سينالونها كاملة بسلاحهم ذات يوم.
ولم تخب شعلة الخلفاء العباسيين إلا في القرن العاشر من الميلاد، ولكن الخلافة العباسية كانت قد خسرت سلطانها منذ زمن طويل حينما غابت عن التاريخ.
لم يكن الترك الذين جيء بهم إلى بغداد من غير الأسري أو الموالي الذين أعجبت الخلفاء قدودهم ففوض الخلفاء إليهم أمر حراستهم، ولم يلبث هؤلاء الموالي أن صنعوا