من المعلوم أن مصر هي الوادي الضيق الذي أوجده النيل في سواء الصحراء، ويبلغ طول هذا الوادي مستقيماً من الشلال الأول الواقع على حدود بلاد النوبة إلى البحر نحو مئتي فرسخ، ويبلغ طوله معوجاً من ذلك الشلال إلى البحر أكثر من ثلاثمائة فرسخ.
ويختلف وادي النيل عرضاً، فبينما تراه لا يزيد على خمسة كيلو مترات في مصر العليا تراه يزيد على عشرين كيلو مترًا في مصر الوسطى، وهو لا يكون عظيم الاتساع إلا بالقرب من مصب نهر النيل حيث ينقسم إلى ضلعيه اللتين يتألف من ابتعاد إحداهما عن الأخرى شكل ٧، فيسمى السهل الواقع بينهما بالدلتا؛ لمشابهته الحرف اليوناني الذي يحمل هذا الاسم، ويبلغ أكبر طول في المثلث الذي يتألف على هذا الوجه نحو أربعين فرسخاً، ويبلغ أكبر عرض في هذا المثلث، أي من ناحية البحر، ستين فرسخاً.
والغرين الذي تتألف منه مصر خصب جداً، وهو لا يحتاج إلى أكثر من نضحه بالماء ليخرج زرعه، والنيل هو الذي يقوم بذلك حين فيضانه، وفي مصر نظام للري، كالذي كان في زمن الفراعنة لا ريب، يؤدي إلى توزيع المياه بين أقسام الأرض التي لا يصل إليها النيل بنفسه.
وبلغت أقسام كثيرة من تلك الأرضين العجيبة من الخصب مبلغاً تخرج معه في كل سنة ثلاثة زروع في كثير من الجهات، ويتم زرع تلك الأرضين من غير عناء تقريباً، أي أنها لا تحتاج في الغالب إلى من يثيرها لبذرها، وهي تغل أكثر من أراضي البلدان الأخرى مع ذلك، فبينما تعطي البرة ما يترجح بين خمسة أمثالها وعشرة أمثالها في أخصب أراضي فرنسة تراها تعطي خمسة عشر مثلاً في أراضي مصر.
ولا يحتاج سكان مصر، بسبب جوها الحار، إلى وفرة القوت، ولا إلى ثقيل الثياب، ولا إلى محكم المنازل، فالفلاح المصري يقتصر في طعامه على كسر يابسة من الخبز وقليل من الفواكه والبقول، ويسكن كوخاً حقيراً من تراب النيل المجبول بالتبن والماء، ويلبس جلباباً أزرق، وإذا ما كان عمره أقل من أربع عشرة سنة كان من العراة، وقد رأيت في مصر العليا وبالقرب من حدود النوبة، على الخصوص، عمالاً كثيرين لا يكاد يزيد ثوب كل واحد منهم على زنار عرضه بضعة سنتيمترات مشدود على وسطه، وتترجح جميع نفقات الفلاح المصري السنوية في زماننا، الذي كثرت فيه نفقات الإنسان، بين سبعين فرنكاً و ١٢٠ فرنكاً، ويندر أن تزيد أجرته اليومية على خمسين سنتيماً، وأنبأني دليلي في الأقصر، أحمد، وهو لم يكن من سفلة الناس، أن نفقاته السنوية، هو وزوجه وأولاده الأربعة، نحو أربعمائة فرنك، وأنه يعيش بهذا المبلغ عيشاً لائقاً كثيراً.