ولم تستنبط جميع السنن التاريخية المزعومة من غير ما هو تحت الحس والاختبار، وهي تقاس بملاحظات علماء الإحصاء الذين يستطيعون، بما يشاهدون ويختبرون، أن ينبئوا، مثلاً، بعدد الوفيات والجرائم وأنواع الجرائم التي يصاب بها بلد يسكنه مليون نفسٍ في سنة ما من غير أن يخلصوا إلى صميم علل الحوادث الذي هو ضربٌ من المحال، وهذه العوامل كثيرة إلى الغاية.
ونشأ عن تعذر النفوذ إلى علل الحوادث الاجتماعية استخفاف فريق من العلماء بالعلوم التاريخية التي حاولوا الغوص فيها، قال الكاتب الفاضل مسيو رينان:«إن العلوم الافتراضية تنقض بعد أن توضع، وستهمل في مائة سنة، وأوشك جيلٌ من الذين لا يبالون بالماضي أن يظهر، ويخشى، والحالة هذه، أن تندثر قبل أن تقرأ كتبنا في دقائق الأدب وروائع الفنون التي ينال التاريخ منها ضبطاً ودقة»، ويرى رينان أن المستقبل للفيزياء والعلوم الطبيعية حيث يتجلى «كنه الوجود، ومعنى العالم، وسر الله، وما إلى ذلك».
وقد يأمل كل واحد ذلك لا ريب، ولكننا لا نرى ما يسوغ هذه الأماني، فليس في العلوم الوضعية شيء عن الموجب الأول لأي حادث كان، وكل ما كشفت العلوم الوضعية الحديثة عنه، فكانت فيه قوتها، هو ما بين ظواهر الأمور من الارتباط، وهي حين تتناول أموراً معقدة تغرق في بحر من الفرضيات والظنون، ولا تكاد العلوم الحديثة تأتي بجواب حائر عن المسائل التي يضعها الإنسان كل يوم، وهي لن تحل واحدة من المعضلات التي تواجه الطبيعة بها الإنسان من مهده إلى لحده، وهي لا تشبع ما تلقيه في قلوبنا من فضول أبداً، وهي تثير الأفكار ولا تفك المسائل، وستلحق كرتنا الأرضية في الفضاء بالأجرام الخامدة قبل أن يجيب أبو الهول الخالد عن سؤال واحد.
إذن، يجب ألا يعترينا الوهم حول قدرة العلوم فنحملها ما لا طاقة لها به، والعلوم تبحث، فقط، في أوصاف الإنسان أو الحيوان أو النبات أو المجتمع، وفي رسم صورةٍ صادقة عن أدوار الماضي، وفي ارتباط بعض الحوادث التاريخية في بعض، ولا نطالب المؤرخ بأكثر من هذا.
والعمل شاقٌ، ويتطلب عنايةً كبيرة، ومن الصعب جمع ما هو ضروري من المواد لتصوير إحدى الحضارات، وأصعب من هذا استخدام هذه المواد.
ولم تكن هذه المواد في أنساب الملوك وأخبار الملاحم والفتوحات، وإنما هي، على الخصوص، في لغات كل دور وفنونه وآدابه ومعتقداته ونظمه السياسية والاجتماعية،