ولم تنشأ هذه المواد عن المصادفات أو أهواء الرجال أو مشيئة الآلهة، بل عن احتياجات الشعوب وأفكارها ومشاعرها، وتتضمن الديانات والفلسفة والآداب والفنون نمطاً خاصاً من الشعور وطرزاً معيناً من التفكير، ولا تتضمن غير هذا.
نعم، إن أعمال الرجال وآثارهم تعبر عن أفكارهم ومشاعرهم، وتمكننا من تصور الدور الذي كانوا فيه، ولكن هذا لا يكفي، فالأمم نتيجة ماضٍ طويل، وليست الأمم بنت ساعةٍ واحدة، وهي محصول ما خضعت له من البيئات المختلفة التأثير، ولذا يفسر حاضرها بماضيها.
ونرى تسمية البحث في تكوين العناصر التي تتألف الأمة منها بعلم الأجنة الاجتماعي، وسيكون هذا العلم أساساً متيناً يستند إليه التاريخ كما تستند علوم الحياة إلى علم أجنة الأحياء في الوقت الحاضر.
ولا بد لذوات الحياة من أن تقطع أطواراً سفلية قبل بلوغها درجة عالية من الرقي، وقلما يكشف التاريخ لنا الغطاء عن هذه الأطوار السفلية بعد اختفائها، ولم يفت البحث العلمي أن يجمع منها ما هو أساسي من ضياع حلقاتٍ من سلسلتها، ولم تصب المجتمعات كلها أدواراً متماثلة من التقدم أيضاً، ولم يجاوز الكثير منها بعد ما قطعه الغرب من المراحل التي هي عنوان الماضي الثابت، والذي يسير في الأرض يشاهد أدوار التاريخ البشري المختلفة منذ أقدم العصور الحجرية حتى الوقت الحاضر، وبهذا يمكن تأليف تاريخ إحدى الأمم، ومعرفة عناصر حضارتها.
ومن الممكن تأليف تاريخ لإحدى الحضارات ونموها بطريق البحث في المباني العظيمة والآداب واللغات والنظم والمعتقدات ... إلخ، وإذا كان من النادر نيل كل هذا فإن بعض هذا يكفي لاستخراج ما تبقى، فالطرق العلمية التي يصل بها الباحث إلى تصوير حيوانٍ مستعيناً بقطع من هيكله العظمي يستفاد منها في المباحث التاريخية أيضاً، وظهور بعض الخطوط والحروف يتضمن وجود غيرها دائماً.
وقد تكون تلك المواد غير كافيةٍ من حيث الضبط والدقة على الخصوص، والعلم الحديث يترك إتمامها للحفدة، ومن السهل أن نتوقع اختلافاً بين كتب التاريخ التي تؤلف في المستقبل وكتب التاريخ الحاضرة، فستقتصر كتب تاريخ الحضارات التي تؤلف في القرن العشرين، مثلاً، على العنوان ومجموعة من الصور والخرائط والمنحنيات الهندسية الدالة على تقلبات الحوادث الاجتماعية.