للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في عبقرية المسلمين»، ومن «أن أوربة والدنيا كانتا تخسران مستقبلهما»، فمزاعم مثل هذه ليست مما يقف أمام سلطان النقد عندما يعلم أن التمدن اللامع حل بالبلاد التي خضعت لأتباع الرسول محل الهمجية، وأن النشاط الذي يحفز الإنسان إلى التقدم لم يكن قوياً في أمة مثل قوته في العرب.

ولم يكن احتلال العرب الجنوب فرنسة عدة قرون غير ذي أثر ضعيف، فبما أن المدن التي استولوا عليها في جنوب فرنسة من القواعد الحربية التي كانوا يستندون إليها في غاراتهم لم يبالوا بتمدينها، ولم يكن لهم في جنوب فرنسة مراكز مهمة للحضارة كما اتفق لهم في إسبانية وبلاد المشرق.

ومع أن إقامة العرب بفرنسة نشأت عن بعض السرايا نراهم قد تركوا أثراً عميقاً في اللغة وفي الدم كما نذكر ذلك في فصل آخر، وذلك أنه استقر أناس كثيرون منهم بالأرضين القريبة من المدن التي استولوا عليها وتعاطوا فيها أمور الزراعة والصناعة، وأنهم أدخلوا صناعة البسط إلى أبوسون، وأنهم أدخلوا كثيراً من أساليب الفلاحة كما عزي إليهم، وأنهم امتزجوا بسكان البلاد بسبب محالفاتهم الكثيرة لأمراء النصارى الإقطاعيين المتقاتلين على الدوام، وأنه وجد حفدة للعرب في أماكن كثيرة من بلاد فرنسة كالمقاطعات: كروز والألب الأعلى ومونتمور (جبل المغاربة) وبنيو (شارانت) وبعض قرى لاند وروسيون ولنغدوكة وبيارن كما أثبت ذلك علم وصف الإنسان، فيمكن الإنسان أن يعرفهم بجلودهم السمر وشعورهم السود وأنوفهم القنو وعيونهم الثاقبة اللامعة، ويمكن المرء أن يعرف نساءهم بألوانهن الزيتية ووجوههن الأسيلة وأعينهن النجل الدعج وحواجبهن الزج وصدورهن الناهدة ... إلخ، وإذا كانت هذه الصفات قد ظلت باقية فلم تمح بغرقها في صفات السكان المجاورين، تبعاً للسنن الإنتروبولوجية التي بيناها، فلأن حفدة العرب أولئك ألفوا جماعات صغيرةً منفصلةً عن بقية الأهلين غير متصلة بهم بصلات التوالد.

انتهينا من تاريخ العرب في مختلف الأقطار التي دانت للإسلام، وعلمنا درجة اختلاف هذا التاريخ باختلاف البيئات التي أقاموا بها وبحسب مقاصدهم من الاستيلاء عليها، ورأينا أنهم ذوو أثر بالغ في تمدين الأقطار التي خضعت لهم خلا فرنسة على ما يحتمل، وأن كل بلد خفقت فوقه راية النبي تحول بسرعة، فازدهرت فيه العلوم والفنون والآداب والصناعة والزراعة أيما ازدهار.

<<  <   >  >>