وليس التاريخ خالياً من الأمثلة على عدم المطابقة بين الضالة المنشودة والهدف المدرك، بل هو حافل بهما، حتى يكاد البصير يرى في ذلك قاعدة مطردة.
وإذا أراد المرء تصور تأثير الشرق في الغرب وجب عليه أن يتمثل حال الحضارة التي كانت عليها شعوبهما المتقابلة، فأما الشرق فكان يتمتع بحضارة زاهرة بفضل العرب، وأما الغرب فكان غارقاً في بحر من الهمجية، وقد ظهر من بياننا الوجيز عن الحروب الصليبية أن الصليبيين كانوا في سلوكهم وحوشاً ضارية، وأنهم كانوا ينهبون الأصدقاء والأعداء ويذبحونهم على السواء، وأنهم خربوا في القسطنطينية ما لا يقدر بثمن من الكنوز القديمة الموروثة عن اليونان والرومان.
ولم يكن عند أولئك البرابرة ما يفيد الشرق، ولم ينتفع الشرق منهم بشيء في الحقيقة، ولم يكن للحروب الصليبية عند أهل الشرق من النتائج سوى بذرها في قلوبهم الازدراء الغربيين على مر الأجيال، ولم ينشأ عن جهالة الصليبيين وغلظتهم وتوحشهم وسوء نيتهم غير حمل الشرقيين أسود الأفكار عن نصارى أوربة وعن النصرانية، وغير إيجاد هوة عميقة لا يمكن سدها بين أمم الشرق وأمم الغرب، وما إلى ذلك من النتائج الضارة التي أشرنا إليها آنفاً.
ولم تكن العداوة العادلة التي يحملها الشرقيون تجاه أمم الغرب كل ما صدر عن الحروب الصليبية من النتائج الضارة، فقد نشأ عنها، أيضاً، زيادة سلطة البابوات الذين كانوا رؤساء عالين للصليبيين، وزيادة سلطة رجال الدين الذين اعغتنوا بأرضين اضطر السنيورات إلى بيعها منهم ليقوموا بنفقات الغزو، وقد نجم عن نمو سلطة أولئك واغتناء هؤلاء أن رغب البابوات في السيطرة على الشعوب والملوك وأن عم فساد الإكليروس، فأدى هذا الفساد بعد زمن إلى الإصلاح الديني وما قاسته أوربة بسببه من المنازعات الدامية.
ومن أشأم نتائج الحروب الصليبية: أن ساد عدم التسامح العالم عدة قرون، وأن صبغته بما لم تعرفه ديانة، خلا اليهودية، بصبغة القسوة والجور، أجل، كان العالم قبل الحروب الصليبية يعرف الشيء الكثير من عدم التسامح، ولكنه ندر أن كان عدم التسامح هذا يصل إلى حد الجلف والطغيان، وقد بلغ عدم التسامح هذا مبلغاً من الحميا الشديدة في الحروب الصليبية ما لا يزال العالم يقاسي أثره إلى زماننا تقريباً، فلم يلبث رجال الدين الذين تعودوا سفك الدماء أن صاروا ينشرون المعتقد ويبيدون أصحاب البدع على الطريقة التي كانوا يبيدون بها الكافرين، ويرون أنه يجب إخماد أقل انحراف بأفظع تعذيب، ومن نتائج ما نما في الحروب الصليبية من روح عدم التسامح المشؤومة: