وقد انتهت إلينا أسماءُ بعض علماء الفلك في ذلك الزمن، ومن أشهرهم البَتَّانِيُّ الذي عاش في القرن التاسع وتوفيَّ سنة ٩٢٩ م، والذي كان له من الشأن بين العرب ما لبطليموس بين الأغارقة، وقد احتوى كتابه «زِيجُ الصابي» على معارف زمنه الفلكية كما احتوى كتاب بطليموس، ولم يصل إلينا النصُّ الأصلي لأزياجه التي لم تعرفها أوربة إلا من ترجمتها اللاتينية المحرَّفة مع الأسف، ووضع لالاند الشهير البتاني في صَفِّ الفلكيين العشرين الذين عُدُّوا أشهر علماء الفلك في العالم.
وألف أماجور وابنه، اللذان قاما برصد بين سنة ٨٨٣ م وسنة ٩٣٣ م، أزياجاً، وذهب هذا الأخير إلى تحول حدود أكبر دائرةٍ من دوائر عرض القمر، خلافاً لمن تقدَّمه من علماء الفلك، ولا سيما بطليموس، فأدى درسُ هذا الشذوذ في دوائر عرض القمر إلى اكتشاف اختلافٍ قمريٍّ ثالث.
واشتهر أبناء موسى بن شاكر الثلاثة، الذين عاشوا في القرن التاسع من الميلاد، بأنهم من علماء الفلك أيضاً، فقد عيَّنوا بضبطٍ لم يكن معروفاً قبلهم مبادرةَ الاعتدالَين، ووضعوا تقاويمَ لأمكنةِ النجوم السَّيَّارة، وقاسوا عرض بغداد في سنة ٩٥٩ م، وقيَّدوه ٣٣ درجة و ٢٠ دقيقة، أي برَقْم يصحُّ بعشرِ ثوانٍ تقريباً.
وأشهرُ علماء الفلك الكثيرين الذين ظهروا بعد أولئك هو أبو الوفاء المتوفى ببغداد في سنة ٩٩٨ م، ومما عَرَفه هذا العالمُ الفلكيُّ هو الاختلافُ القمريُّ الثالث الذي أشرنا إليه آنفاً، وذلك كما ظهر من كتابه العربي الخطي المهم الذي عَثَر عليه سيديُّو منذ بضع سنين، وذلك أنه استوقف نظره ما في نظرية بطليموس من النقص في أمر القمر فبحث في أسبابه فرأى اختلافاً ثالثاً، غيرَ المعادَلة المركزية والاختلاف الدَّوري، يُعرف اليوم بالاختلاف.
والحقُّ أن هذا الاكتشاف، الذي عُزِي بعد أبي الوفاء بستمائة سنة إلى تيخو براهه، عظيمٌ إلى الغاية، فقد استدلَّ مسيو سيديو به على وصول مدرسة بغداد، في أواخر القرن العاشر، إلى أقصى ما يُمكن علمَ الفلك أن يَصِل إليه بغير نظَّارة ومِرْقَب.
وكان أبو الوفاء مُجَهَّزاً بآلات مُتقنة، فقد شاهد انحراف سَمْت الشمس بربْع دائرة يبلُغُ نصفُ قطرها إحدى وعشرين قدماً، أي يبلغ من الاتساع ما يُعَدُّ كبيراً في المراصد الحديثة.
والحوادث التي أدت منذ أواخر القرن العاشر إلى انحطاط سلطان الخلفاء السياسي ببغداد أوجبت فتوراً في الدراسات، ونشأ عن انقسام الدولة ومغازي