والأثر الفني عنوانٌ ماديٌّ لخيال العصر الذي يوضع فيه، فالبَارْتِنُون عنوان خيال الأغارقة واحتياجاتهم أيام عظمتهم، والإسْكُورْيالُ عنوان مشاعر الإسبان في عصر فيليب الثاني، والبيت ذو الطبقات الست عنوان حياة البُرْجوازيِّ في الوقت الحاضر.
وتدل آثارُ الفن دلالةً صحيحة على أحوال الزمن الذي أبُدِعَت فيه إذا وُجد من يَعرف قراءتها، وإذا كان لكل جيل فنونه وآدابه فلأن لكل جيل احتياجاته الخاصة التي تقضيها الفنون والآداب، فالمسجد الذي هو معبد ومدرسة وفندق ومَشفى في آنٍ واحد أصدقُ دليل على تمازج الحياة المدنية والدينية عند أتباع النبي، والقصرُ العربي، كالحمراء مثلًا، العاطل خارجه من كل زينة، والمشتمل داخله السريع العطب على كل زخرف يحدِّثنا عن حياة أمة ظريفة بارعة سطحية محبة للحياة المنزلية غير مفكرة في سوى الساعة الحاضرة تاركةٍ أمر المستقبل لله، ولذلك أصاب من قال: أوضحُ الكتابات ما كُتب على الحجر.
ولكن الحجر وحدَه هو الذي ينْطَق في الآثار الفنية، وكلُّ أثرٍ ماثل يكلِّم من يحسن السماع، والمباني تنطوي على دلائل عامةٍ كما تنطوي عليها تقسيمات الكِتاب ومختصرات فصوله، وتَكْمُل بالآثار الفنية الفرعية التي يجب على الباحث ألا يحتقرها مهما صَغُر شأنها، ويجب عد آنية استنباط الماء والخنجر والأثاث وكل شيء يمتزج فيه الفن بالصناعة من أصدق الوثائق التي يمكن المؤرخين أن يعتمدوا عليها أيضًا، ومتى عرف المؤرخون أن يستخرجوا من هذا كله حوادث التاريخ أخُرِجَ التاريخ من دائرة سرد الوقائع وسلاسل الأنساب والدسائس السياسية الممزوجة بتقديراتٍ صبيانية لا تقف أمام سلطان النقد، والتي لا يُوصَل بتصفح أكداس الكتب الباحثة فيها إلى معرفة بصيص من حضارة الأزمنة التي تُحَدِّث عنها.
والآثار الفنية والأدبية الخليقة بالازدراء، لملاءمتها ما لدى العروق السائرة الانحطاط من الاحتياطات الوهمية، هي التي تنسخ بنذالةٍ عن آثار الماضي لاستخدامها في شؤون الزمن الحاضر، كأن تقدم محاطات الخطوط الحديدية أو المدارس الحديثة على الطراز القوطي مثلاً، وكذلك لا معنى للبرج بغير فارسٍ نبيل يحميه، فإضافة برج إلى البيت الريفي الحديث من قبيل المهازئ التي تحدث عندما يلبس برجوازي في الوقت الحاضر خوذةً ودرعاً كما كان يلبس شاركلن، فإذا كان صنعُ تمثال للقيصر شارلكن راكبًا فرسًا ولابسًا خُوذة ودرعًا مما يزيد في رَوعة هذا التمثال لدلالته على زمن المعارك والطعان، فإن صنع مثله لأحد رجال المال والاقتصاد أو لأحد رجال القانون مما يستلزم