إلى بنائي البيزنطيين، وأن هؤلاء المعماريين كانوا يجيئون من كل مكان، وأن شارلمان كان يأتي بالكثير منهم من الشرق. وقد نقل مسيو ياردو عبارة عن كتاب «تاريخ باريس» لدولور جاء فيها أن مهندسين معماريين من العرب استخدموا في إنشاء كنيسة نورتردام الباريسية: ويتجلى في إسبانية - على الخصوص - تأثير العرب المعماري العظيم الذي غفل عن ذكره العلماء المشار إليهم، وقد ذكرنا في فصل سابق أنه نشأ عن تمازج فنون العرب والنصارى طرازٌ خاصٌ يعرف بالطراز المدجن الذي ازدهر في القرن الرابع عشر والقرن الخامس عشر من الميلاد على الخصوص، وترى في الصور التي نشرناها في هذا الفصل أمثلة مهمة لذلك، وما أبراج كثيرٍ من كنائس طليطلة إلا مقتبسةٌ من المآذن، وليست المباني التي شادها النصارى في الولايات المستقلة في العهد الإسلامي إلا عربيةً أكثر منها نصرانيةً، وذلك كقصر شقوبية الشهير الذي نشرت له عدة صور، فتدل إحدى هذه الصور التي التقطناها من رسمٍ قديم على حاله قبل حريق سنة ١٨٦٢، وتدل الصور الأخرى الفوتوغرافية الأصل على حاله في القوت الحاضر، ولا نجهل أن قصر شقوبية هذا أقيم في القرن الحادي عشر من الميلاد، أي أقيم في أيام السيد بأمر الأذفونش السادس الذي طرده أخوه من ممالكه، والتجأ إلى عرب طليطلة، ودرس قصرهم فيها وعاد إلى ممالكه، وأنشأ قصرًا شبيهًا به، ومما يزيد قصر شقوبية قيمةً إمكان عده مثالاً للقصور العربية المحصنة التي أقيمت في بلاد إسبانية ثم عفا رسمها تقريباً في الوقت الحاضر.
ويلوح لي أن آثاراً كثيرة عدها بعض المؤلفين من المباني القائمة على الطراز القوطي الخالص، كبرج بليم الذي أنشئ بالقرب من أشبونة، ذات مسحة عربية بشكلها العام وأبراجها المطنفة وشرفها وبجزئياتٍ أخرى فيها.
أجل، قد يرى أن تأثير العرب في إسبانية زال تماماً، ولكن بعض المدن الإسبانية، ولا سيما أشبيلية، حافلةٌ بذكريات العرب، ولا تزال بيوتها تبنى على الطراز الإسلامي، وهي لا تختلف عن نماذجها إلا بفقر زخارفها، ولا يزال الرقص والموسيقا فيها على الطريقة العربية، ويشاهَد الدم الشرقي فيها بسهولة كما ذكرت ذلك سابقًا. أجل، يمكن أن تُباد أمةٌ، وأن تحرق كتبها، وأن تُهدم آثارها، ولكنَّ تأثيرها يكون أقوى من القُلُزِّ غالباً، ولا يستطيع الإنسان محوه، ولا تكاد العصور تَقْدِر عليه.