حقاً، ظهر في إسبانية ملوك نوابغ كشارل الثالث، وتمتعت إسبانية برخاء مصنوع ذات زمن، وذلك عندما استحضرت من الخارج فريقًا من العلماء وأرباب الصناعات، ولكن هذا كان على غير جدوَى، فلن يستطيع أحدٌ إحياء الموتى، وحقاً إن العرب زالوا، وقضت محاكم التفتيش على كل من يزيد ذكاؤه قليلاً على المستوى المتوسط، فصرت ترى فيها سكانًا، وعادت لا تحتوي رجالاً.
وأجمع كتاب العصر الذين زاروا إسبانية على الاعتراف بضعف مستوى الإسبان الثقافي، وكان هذا الضعف عميقًا عاماً في أواخر القرن السابع عشر من الميلاد، وبدت تلك البلاد التي أضاءت العالم أيام سلطان العرب خاليةً من أية مدرسة لتعليم الفيزياء والرياضيات والطبيعيات، وصرت لا ترى فيها كلها، حتى سنة ١٧٧٦ م كيماوياً قادراً على صنع أبسط التراكيب الكيماوية، ولا شخصاً قادرًا على إنشاء مركب أو سفينة شراعية، وذلك كما قال الكاتب الإسباني كنبومانس مؤكدًا.
ولا مراء في نجاح محاكم التفتيش المرهوبة في أعمالها، فقد أضحت جميع بلاد إسبانية لا تعرف غير كتب العبادة، ولا تعرف عملاً غير الأمور الدينية، جاهلةً ما أتاه نيوتن وهارقي وغيرهما من الاكتشافات العظيمة جهلاً تاماً.
ولم يسمع أطباء الإسبان شيئاً عن الدورة الدموية إلى ما بعد اكتشافها بقرن ونصف قرن، ويمكن استجلاء مستوى معارفهم بالأمر الغريب القائل: إن بعض الناس، في سنة ١٧٦٠ م، اقترحوا، مع التواضع، إزالة الأقذار التي كانت تملأ شوارع مدريد وتفسد هواءها، وإن رجال الصحة احتجوا على ذلك بشدة ذاكرين أن آباءهم العقلاء كانوا يعفرون ما يصنعون، وأنه يمكن السكان أن يعيشوا مثلهم بين الأقذار، وأن رفعها ينطوي على تجربة لا يقدر أحدٌ على كشف عواقبها.
ولم تستطع أطيب الجهود أن تنهض ببلاد إسبانية التعسة، فاليوم لا تجد فيها زراعة ولا صناعة، واليوم تستعين بالأجانب في كل ما يحتاج إلى استعداد يزيد على أدنى مستوى، واليوم يدير الأجانب مصانعها، ويمدون خطوطها الحديدية، ويمدونها بمن يسوق قاطراتها، وبكل ما له علاقة بالعلوم والصناعات.
وبلاد هذه حالها تعد من البلاد التي تقدر على معاجلة أمورها أية حكومة قديرةٍ حرة أو غير حرة، وذلك أن الحكم لا يمكن بغير موافقة الجمهور، وأن الجمهور الإسباني دون حكومته دائماً مهما كانت هذه الحكومة قليلة الرقي، أجل، تتمتع إسبانية بمظاهر الحضارة، ولكن هذا لا يعدو حد المظاهر، فالجهل عام فيها كما