وهذا هو عَينُ ما أصاب إسبانية بعد طرد العرب، فقد حلَّ الانحطاط فيها محل العظمة، وقد زاد انحطاطها سرعةً ما عطلت من قادة عظام حربيين كالذين ظهروا في قرن واحد، وقد أضاعت كل شيء حين خسرت سلطانها الحربي وحرمت الحضارة معاً.
وكان من سرعة الانحطاط الذي عقب إجلاء العرب وقتلهم ما يمكننا أن نقول معه: إن التواريخ لم يرو خبر أمة كالإسبان هبطت إلى دركةٍ عميقة في وقت قصير جداً، فقد توارت العلوم والفنون والزراعة، والصناعة، وكل ما هو ضروري لعظمة الأمم، عن بلاد إسبانية على عجل، وقد أغلقت أبواب مصانعها الكبرى، وأهملت زراعة أراضيها، وصارت أريافها بلاقع، وبما أن المدن لا تزدهر بغير صناعة ولا زراعة فقد خلت المدن الإسبانية من السكان على شكل سريع مخيف، وأصبح عدد سكان مدريد مئتي ألف بعد أن كان أربعمائة ألف، وصارت إشبيلية، التي كانت تحتوي ١٦٠٠ حِرفَة كافية لإعاشة ١٣٠٠٠٠ شخص، لا تشتمل على غير ٣٠٠ حرفة، وهذا فضلًا عن خلوها من ثلاثة أرباع سكانها كما جاء في رسالة مجلس الكورتس إلى الملك فليب الرابع، ولم يبق في طليطلة سوى ثلاثة عشر مصنعًا للصوف بعد أن كان فيها خمسون، وخسرت طليطلة جميع مصانعها الحريرية التي كان يعيش منها أربعون ألف شخص، ووقع مثل هذا في كل مكان، ولم تعتم المدن الكبيرة، كقرطبة وشقوبية وبرغش، أن أصبحت كالصحارَى تقريباً، وزال ما ظل قائماً فيها من المصانع القليلة بعد تواري العرب، وكان من غياب جميع الصناعات في إسبانية أن اضطر القوم إلى جلب عمالٍ من هولندا عندما أريد إنشاء مصنعٍ للصوف في شقوبية في أوائل القرن الثامن عشر.
ونجم عن أفول الصناعة والزراعة في بلاد إسبانية على هذا الوجه السريع ما يشاهد فيها من البؤس العميق، ومن وقوعها في الانحطاط التام في قليل من السنين.
ومصائب كتلك مما يقتل كل نشاط وحيوية بسرعة، وإمبراطوريةٌ واسعة لا تغرب الشمس عن أملاكها كتلك، كما قيل، لا بد من أن تقع في دور الهمجية المظلم على عجل ما لم تنقذ بسلطان الأجنبي، ولذا اضطرت إسبانية، لتعيش بعد وهنٍ إلى تسليم زمام سلطتها العليا وشؤونها الإدارية وصناعتها وتجارتها إلى رؤساء من الأجانب كالفرنسيين والطلاينة والألمان ... إلخ.
غير أنه لم ينشأ عن سلطة فليب الخامس، الذي هو حفيد لويس الرابع عشر، والإدارة الأجنبية التي أكره هو وخلفاؤه على إدخالها إلى إسبانية سوى حيويةٍ ظاهرة غير حقيقية، وذلك لتعذر انتشال أمة بعد هبوطها.