ونشاطه أن تقهقر أمامه العامل الذي يزعم أنه من شعبٍ أرقى من شعبه؛ فاضطُرت أمريكا وأسترالية إلى منعه من دخول بلادهما في الوقت الحاضر.
وإذا أضيف إلى ما بين الشرقيين والأوربيين من ذلك الاختلاف اختلافُهما في الشعور والتفكير بَدَت الهُوة العميقة بينهما، ولا يحسُدُنا الشرقيون على حضارتنا، وأقلهم حسداً لنا مَن يَزُورُ منهم بلادنا، ويحمل هؤلاء عند رجوعهم إلى بلادهم أسوأ الآراء فينا، معتقدين أن دخول حضارتنا بلادهم ينطوي على أعظم البلايا والفجائع، ويستدل المثقفون منهم على هذا بما صارت إليه بلاد الهند، وذلك مع الإجماع على أن الشرقيين أسعد حالاً من الأوربيين، وأعظم شرفاً، وأمتن أخلاقاً ما ظلُّوا غير متصلين بهم.
ولكن إذا كان التباين الواضح بين حياة الشرقيين والأوربيين وأفكارهم ومشاعرهم كافياً لإيضاح عدم اكتراث أمم الشرق لنِعَم حضارتنا، فإنه لا يكفي لإيضاح رفضهم لنا وازدرائهم البيِّن لنظمنا ومعتقداتنا وأخلاقنا.
ومن العبث أن نكتم سبب تلك المشاعر، فهي ناشئة عن مَكر الأمم المتمدنة وظلمها الأممَ الأخرى التي هي غيرُ متمدنة أو التي نَعُدُّها ضعيفة الحضارة.
وسياسة الأوربيين القائلة:«إنه لا يجوز أن يمشي على الأرض فريقٌ من الهمج» تؤدي إلى إبادة الأمم غير المتمدنة أي المتوحشة بسرعة؛ فيطارِد الأوربيون سكان أمريكا الأصليين كما يطارد الصَّيَّادون الأرانب، ويزول أصحاب الجلود الحمر من أمريكا لسلب أرَضِي الصيد منهم وحصرهم في مناطق جديبةٍ لا يخرجون منها بفعل الجوع إلا ليُجَدَّلوا كما يُجَدَّل البط، ويُبَاد هَمَج أقيانوسية، ولم يبقَ من أهل تسمانية الأصليين أحد.
ولم تكن سياسة الأوربيين نحو الأمم الشرقية المتمدنة، كالصينيين والهنود مثلاً، أحسن كثيرًا من سياستهم نحو أولئك الهمج، وإذا أغضينا عن محاربتنا لهم بما ليس فيه ذرةٌ، من الإنصاف نرى أن سلوكنا اليومي تجاههم يكفي لجعلهم شديدي العداوة لنا، وكل من يُوغِل في الشرق يَعلَم أن أحقر الأوربيين يعتقد أن كل شيء مباحٌ له في الشرق، وإذا لم يُسْتَغَلَّ الشرقي رأساً، كما يُستَغَلُّ في الهند بما يثقل به كاهله من الضرائب التي تنزع آخر كِسرة خبز منه، فإنه يُستَغَل بالحيل التجارية التي تتم بوقاحة دالة على ضعف الطِّلاء لدى رجالنا المتمدنين، ويفقد الأوربي في الشرق كل صفاته ويهبط أخلاقاً إلى ما هو أدنى من مستوى الشعوب التي يستغلها، ولو حوكم