ونذكر على رأس هذه العوامل التي ندرُسها ذلك العامل الذي توحَّدت بفضله جميع القبائل العربية المنقسمة، وهو الدين الذي أنشأه محمد، فقد منح هذا الدين ما كانت تحتاج إليه أممٌ من المثل الأعلى المشترك الذي اكتسبوا به من الحميَّة ما استعدوا به للتضحية بأنفسهم في سبيله.
وقد أتيح لي أن أذكر غيرَ مرة أن عبادة أيِّ مثلٍ عالٍ من أقوى العوامل في تطور المجتمعات البشرية، ويكفي أن يكون المثل الأعلى قوياً؛ ليمنح الأمة مشاعر مشتركة وآمالاً مشتركة وإيماناً متيناً يندفع به كلُّ واحد من أبنائها في التضحية بنفسه في سبيل نصره، وكانت عظمة رومة مَثَلَ الرومان الأعلى، وكان نيلُ حياة أخرى يُجتَنَى منها أطايبُ النِّعم مَثَلَ النصارى الأعلى، وتخيَّل الرجل العصري آلهة جددًا يقيم لهم تماثيل مع أنهم وهميون كقدماء الآلهة لا ريب، وذلك مع كفاية تأثيرهم الطيب لوقاية مجتمعاتنا القديمة من الزوال حينًا من الزمن، وليس التاريخ سوى رواية للحوادث التي قام بها الناس انتصارًا لمثلٍ عالٍ، ولولا تأثير المُثُل العليا ما تمدن الإنسان، ولظل في دور الهمجية، ويبدأ دور انحطاط الأمة حينما تعود عاطلةً من مَثَلٍ عالٍ محترم يستعد كل واحد من أبنائها لوَقْف نفسه عليه.
والمثل الأعلى الذي أبدعه محمدٌ دينيٌّ محض، والدولة التي أسسها العرب هي الدولة العظمى الوحيدة التي قامت باسم دين اشتُقت منه جميعُ نُظُمِها السياسية والاجتماعية.
وهل يكفي هذا المثل الأعلى القوي والعوامل الأخرى التي ذكرناها لإيضاح عظمة العرب؟ كلا.
تقدمنا في الإيضاح وقلنا: إن العالم القديم كان متصدعاً، وإن أمةً ذاتَ صفاتٍ حربية اتحدت بفضل معتقداتها المشتركة وصارت مستعدة لفتحه، وإنه بقي لهذه الأمة أن تستولي عليه فعلًا وتَحْفظه.
ورأينا كيف تمت فتوح العرب، وكيف أنهم لم تُفَلَّ عزائمهم ثانيةً، وأنهم تعلموا من غالبيهم ما كانوا يجهلون من فنون الحرب بعد أن خرجوا من جزيرتهم وغلبهم الوارثون الأخرون للسلطان الإغريقي الروماني، فلما تساوَوْا هم والروم في الأساليب الحربية لم يبقَ شكٌّ في تمام النصر لهم؛ لاستعداد كل جندي عربي لبذل نفسه في سبيل دينه، ولتوارِي كل إخلاص وحماسة وإيمان في جيش الروم منذ زمن طويل.
وكان يمكن أن تُعمِيَ فتوحُ العرب الأولى أبصارَهم، وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويسيئوا معاملة المغلوبين، ويُكرهوهم على اعتناق دينهم الذي