وكان اختلاط مختلف الأمم في دولة واحدة عاملَ انحلال قويٍّ دائماً، وقد أثبت التاريخ أنه لا يمكن بقاء مختلف العروق تحت سلطان واحد إلا بمراعاة الشرطين الآتيين، وهما: أن يكون الفاتح من القوة ما يَعلمُ كل واحد معه أن كلَّ مقاومة له لا تُجدي نفعًا، وألا يتوالد الغالب والمغلوب، ومن ثَمَّ ألا يفنى الغالب فيه.
ولم يُراعِ العرب الشرط الثاني قط، ولم يراعِه الرومان في كل زمن، وقد انحط الرومان حالاً حينما عَدَلوا عنه.
ومن أهم العوامل الكثيرة في انحلال العالم الروماني القديم؛ سهولةُ منح السادة القدماء جميعَ حقوق المواطن للبرابرة، فقد نَجَم عن هذا أن غصَّت رومة بمختلف العروق، وعَطِلَت من سيادة الرومان، وانطفأت المشاعر التي كانت سر عظمتها سابقاً، وقد كان المواطن من أهل رومة لا يتردد ثانيةً في التضحية بحياته في سبيلها؛ لما في عظمتها من مثلٍ عالٍ قادر، فما تكون قيمة مِثْلَ هذا المثل الأعلى في نفوس البرابرة؟
ومن الصعب جدٍّا أن تَنْضَوِيَ إلى نظامٍ واحدٍ أممٌ مختلفة العروق وذات مصالح ومشاعر متباينةٍ في الغالب، وهذا لا يكون إلا بالضغط الشديد على الأكثر، ومن الأدلة عليه النظام المفروض على الايرلنديين والهندوس في الوقت الحاضر.
وما كان العرب ليلجئوا إلى مثل هذا الضغط حِيالَ مختلف العروق التي خضعت لهم ما انتحلت ديانتهم ونظمهم بسهولة، وما ساوى الإسلام مساواةً تامة بين جميع الذين اعتنقوه على اختلاف شعوبهم.
هذه هي شريعة القرآن، ولم يرغب الغالبون عنها، ولم يؤلف الغالبون والمغلوبون في بدء الأمر سوى أمة واحدة ذات معتقداتٍ واحدة ومشاعر واحدة ومصالحَ واحدةٍ، وقد ساد الوِفاق جميعَ نواحي الدولة العربية ما ظل العرب أقوياءَ محترمين في كل مكان.
بيد أن منافساتِ هذه الشعوب كانت خامدةً غيرَ هامدة، وقد بدت حينما عاد العرب إلى ما تعودوه من الشِّقاق والانقسام، وصارت بلاد الإسلام ميدان خصام دائم بين أحزابٍ لم تترك تنازعها حتى حين كان النصارى يحاصرون آخر مَعقِلٍ إسلاميٍّ في الأندلس.
ونشأ عن وجود عروقٍ كثيرة في البلاد التي دانت للإسلام نتيجةٌ أخرى أشرنا إلى خطرها آنفًا، وهي اضطرار العرب إلى الامتزاج بجميع الأمم التي كانوا يعيشون بينها، وكان يمكن العرب أن يكتسبوا بعض الأهليات من اختلاطهم بالأمم التي لم