الفتح، لا ترتقي إلا إذا كان على رأسها رجال عظماء، فإذا افتقدتهم تداعى كل شيء دفعة واحدة.
ومن نتائج سوء نظام العرب السياسي: ما أصيبت به دولتهم من الانقسام، أي لم يُعتِّم ولاة الأقطار، الذين كان يَنْصِبُهم الخلفاء ليديروا شؤونها، والذين كانوا يتمتعون فيها بمثل ما يتمتع به الخلفاء من السلطات العسكرية والدينية والمدنية، أن أرادوا الاستقلال بها، وقد سَهَل عليهم هذا الاستقلال؛ لما لم يروا من سلطان يساوي سلطانهم، وقد نشأ عن نجاح بعضهم إغراءُ الآخرين، فلم تلبث أهم ولايات الدولة أن تحولت بهذا إلى دويلات مستقلة.
وكان لهذا الانقسام نتائجُ ضارةٌ ونتائج نافعة، فأما نتائجه الضارة: فهي أنه أضعف سلطان العرب الحربي، وأما نتائجه النافعة فهي: أنه مَهَّدَ السبيل لتقدم الحضارة، والحق أن مصر والأندلس ما كانتا لتبلغا ما وَصَلتا إليه من الرقي والرخاء لو لم تنفصلا عن الدولة الكبرى، وأنه ما كان ليتفق لهما، في حالة بقائهما من أجزاء تلك الدولة، غيرُ مصير الولايات العثمانية التي يُعزل ولاتها عزلًا مستمرًا فلا يصرفون همَّهم إلا إلى الاغتناء منها بسرعة؛ لِمَا لا يَرَون لأنفسهم فوائد في تقدمها.
أجل، إن تقدم بعض تلك الدُّويلات المستقلة كان عظيمًا، ولكن عاقبتها كانت كعاقبة الدول القديمة التي استندت إلى عدد الجنود وقيمتهم في سلطانها العسكري بدلًا من أن تستند بعض الاستناد إلى أداةٍ حربية مهمة كما هو واقعٌ الآن، والتي كانت تنهار أمام أول غارة أجنبية.
ثم إن الحضارة التي تهذب الطبائع وتُثقف الذهن لا تُنمِي الصفات الحربية، وهي تهيئ سقوط الدول الكبرى بذلك، وذلك لأن الأمم التي يكون أبناؤها من المُعوِزين ترغب في تغيير حالها، وتهدد الأمم المتمدنة المتقاعسة التي تكون على شيء من الرَّخاء، وبهذا سقطت أكثر الحضارات القديمة، وهذا ما أصاب الرومان، وهذا ما أصاب العرب أيضاً، ولو كان الترك والمغول وغيرهم من الأمم التي صرعت العرب في إبان تمدنهم قد هاجموا أتباعَ النبي أيام تأسيس هؤلاء لدولتهم، وتأليفهم أمةً صابرة على المكاره متعودة شظف العيش غير مُترَفةٍ لباءوا بالخسران.
ونذكر من أسباب انحطاط العرب أيضًا: اختلافَ العروق التي خضعت لسلطانهم، ويتجلَّى تأثير هذا السبب على وجهين مختلفين مشؤومين: الأول؛ ما أسفر عن تقابل مختلف العروق من التحاك، وما يجر إليه هذا التحاك من تنافسها. والثاني؛ ما أسفر عن التوالد الكثير من فساد دم الغالبين بسرعة.