درجتها في سلم الحضارة، تُقاس بعدد من يظهر بينها من ذوي المدارك السامية، وإنما يضاف الفوز إلى التفوق العقليِّ عندما يوجد بجانب أعاظم رجالها القليلين جمعٌ كافٍ من ذوي الذكاء العادي والثقافة المتوسطة والصفات الخلقية العالية التي ذكرناها. ونستطيع، بعد هذا الإيضاح التمهيدي، أن نُعَيِّنَ، بما فيه الكفاية، مكانَ العرب في التاريخ، فنقول: إنه ظهر من العرب رجالٌ من الطراز العالي كما تشهد بذلك اكتشافاتهم، ولكنني لا أظن أنهم أخرجوا رجالاً عظماء كأولئك العباقرة الذين ذكرتهم، والعربُ كانوا دون الأغارقة في كثير من المسائل، مساوين للرومان في الذكاء لا ريب، غيرَ حائزين، إلا لوقت قصير، ما كان سببًا في دوام فوز رومة زمناً طويلاً من الصفات الخلقية.
وإذا قابلنا بين العرب والأمم الأوربية، بدلًا من مقارنتهم بالأمم التي غابت عن مسرح العالم، أمكننا أن نقول: إنهم أرقى من جميع أمم الغرب التي عاشت قبل عصر النهضة أخلاقًا وثقافةً، فلم تَعرِف جامعات القرون الوسطى، في قرون كثيرة، مصدرًا غير مؤلفاتهم ومناهجهم، وكانت أخلاقهم أفضلَ من أخلاق أجدادنا بمراحل. وكان العرب قد تواروا عن التاريخ حَوَالَيْ عصر النهضة، ولا نقدر أن نقول شيئًا عما يمكن أن يصلوا إليه لو لم يتوارَوا، ولكننا لا نعتقد، مع ذلك، أنهم كانوا يبلغون مستوًى أفضل مما بلغوا؛ لما كان يسفر نقص نُظُمهم عنه من الموانع.
ولا تمكن المقابلة بين مختلف الأدوار، كالدور الذي غاب فيه العرب والدور الحاضر كما هو واضح، ولكننا إذا حُمِلنا على المقابلة بين هذين الدورين قلنا: إن أكابر العرب السابقين دون أكابر الزمن الحاضر، وإن عرب الطبقات الوسطى السابقة مساوون لأبناء طبقاتنا الوسطى المتمدنة الحاضرة على الأقلِّ، وأرقى منها في الغالب.
وما قلناه عن طبقات العرب الوسطى السابقة نقول مثلَه عن أكثر الشرقيين في الوقت الحاضر، أي إن طبقات العرب والصينيين والهندوس الوسطى الحاضرة ليست دون أَخَواتها في أوربة، وإننا نرى بين هؤلاء زُرَّاعًا وعمالاً ماهرين مهارة زراعنا وعمالنا على الأقل، وإن في مزاحمة الصينيين الساحقة للعمال الأنغلو سكسون في أمريكا وأوسترالية، وما نَجَم عنها من اتباع سياسة طردهم منهما تقريباً، دليلاً قاطعاً على ذلك.
والشرقيون المساوون لنا مهارةً، وهم الذين لم يَحُطَّ الاختصاص ذكاءهم يفوقوننا بقناعتهم وقلة احتياجاتهم وطبائعهم الموروثة، وهم لا يفتقرون إلا إلى أمر أساسي، أي