وثانيهما؛ رفيع الذكاء عاطل من القابليات التي ذكرتُها؛ فالفوز يكون حليف الأقلِّ ذكاءً منهما لا ريب، وإذا ما عُدَّ الذكاء عامل نجاحٍ فقط أمكننا أن نقول: إن ضَرَّه أكثر من نفعه عندما يكون فوق المستوى المتوسط، ويَظهرُ مصداق هذا القول، الذي يلوح أنه غريبٌ، عندما يتمثَّل المرء مصيرَ معركة يكون أحد الشعبين فيها مؤلفًا من أناس حائزين لجميع الأخلاق التي تكلمت عنها آنفًا ويكون الآخر مؤلفًا من الفلاسفة والمفكرين الذين لا يطمعون في عالمٍ أفضلَ من العالم الحاضر، والذين يقولون ببطلان كل مثلٍ عالٍ، ولا يُضَحُّون بأنفسهم في سبيل أيِّ خيالٍ كان، والذين يبتسمون من ضعف مبادئ محمد اللاهوتية، ومع ذلك فإن العالَم لم يعرف فلاسفة تشتمل مذاهبهم على جزء من السلطان المخيف للأوهام التي استطاع مؤسسو الديانات أن يبتدعونها، والمؤمنُ، عربيٍّا كان أو رمانيٍّا وللهَ عَبَدَ أو عظمةَ رومة، يتمُّ له النصر بفضل معتقداته بسهولة إذا ما ضحى بنفسه في سبيلها.
ذلك ما حَدث دائمًا، ولا شيء يَحمِل على افتراض غيره، ومع أن الرومان كانوا سادةَ العالم لم يُبدوا تفوقًا ذهنيٍّا ظاهرًا في الفنون والعلوم، وكان الأغارقة أساتذة لهم في كل ما يَمتُّ إلى الفكر بصلة، ولم يَحُلْ هذا دون استعبادهم لهؤلاء الأغارقة. ونحن، إذا لم نبالِ بغير الفوز، أمكننا أن نبحث عن مقياس التفوق والأفضلية في الصفات الخُلُقيَّة المذكورة آنفًا، ولكن مقياسًا كهذا خادعٌ أيضًا؛ لعدم قيمته فيما عدا ذلك الهدف الخاص، أي فيما عدا الفوز العتيد.
والحق يقضي بألا ننظر إلى المسألة إلا من جهة الحضارة العامة، أي من الناحية الإنسانية؛ لنرى أنه يجب أن يُبْحَث عن الأفضلية في المستوى الذهني، لا في تلك الصفات الخُلقية، أجل، ما كان نيوتن، أو لِيبِنتْز، ليفوز في الألعاب الأوليمبية أو ليقاوم جنديٍّا رومانيٍّا ثانيةً واحدة، ولكن أمثاله من شِباه آلهة الفكر أوجبوا في العالم تحولاتٍ كثيرةً بما لاكتشافاتهم من النتائج القريبة والبعيدة أكثرَ مما أوجبته جميع القبائل الآسيوية التي أقامت دولًا كبيرة، والمستقبلُ حينما يحكم في أمر الماضي بمثل هذه الحرية الفكرية التي لا عهد لنا بها اليوم سيقول، لا ريب، أن اختراع الطباعة والآلة البخارية والخطوط الحديدية والتلغراف الكهربي ... وما إليه من الاختراعات الكثيرة أحدث في طرق معايش الناس من التطورات ما لا قيمة بجانبه لما أحدثته أشهر الثورات.
ولنهمل، إذن، ضروب الفوز المادي التي تعدُّها الجماهير (والتاريخ في الغالب) مقاييس حقيقيةً لتقدير قيمة الأفراد والأمم، ولنُعلن أن قيمة الأمة العقلية، ومن ثم