للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من الأمم التي دوخت العالم أن يعبدوهم، وكل قهر للأعراب لا محالة زائل، والقهر إذا ما وقع كان على أيدي أعراب آخرين، فلا يفل الأعراب إلا الأعراب.

ويرجع حب الأعراب للحرية إلى أقدم عصور تاريخهم، فقد روى ديودورس الصقلي أن الأنباط، وهم من أعراب بلاد الحجر العربية (بطرا)، كانوا ممنوعين من بذر القمح وغرس الأشجار المثمرة، وبناء البيوت لما في هذه الأعمال من التضحية بالحرية طوعاً، ولذا لم يستذل الأعراب أحد، وهم الذين لم يعطوا ملوك فارس الجزية، وقد أعطاها أهل فينيقية وفلسطين كما ذكر هيرودوتس.

ويلقي الأعراب الرعب في قلوب جيرانهم المتمدنين؛ لما فطروا عليه من الرغبة في النهب وحب القتال، ويعد هؤلاء المتمدنون الأعراب من قطاع الطرق، وينظر الأعراب إلى المسألة من ناحية أخرى، أي يفخر الأعراب بسلب القوافل فخر الأوربيين بضرب المدن بالقنابل أو افتتاح الأقطار أو ما إلى ذلك، ويحترم الأعراب رؤساءهم احترام الأوربيين لأعاظم القادة، وإن لم يقيموا لهم تماثيل.

وأصبح أعراب جزيرة العرب، بما كان عندهم من غرائز النهب والقتال، محاربين أشداء أيام خلفاء محمد فدوخوا العالم بسرعة، ولم تتغير غرائزهم بتغير ما لاقوا من الأحوال الجديدة، بل تجلت على صور أخرى ما كان الثبات من الغرائز، فأصبح حبهم للنهب حبا للفتح، وتحول كرمهم إلى ما أخدته أوربة عنهم مؤخراً من طبائع الفروسية، ثم إن ما بينهم من التفاخر والمنافسة لم يلبث أن جاوز الحدود المعقولة فكان سبباً في خسرانهم بعد أن كان حافزاً لهم على العمل الصالح في البداءة.

وكان يتألف من الأعراب قسمٌ كبير من جيوش خلفاء محمد، وقام الأعراب الفاتحون بأجل الخدم لأولئك الخلفاء، وإن كان العلماء وأرباب الفن الذين ازدهرت بهم حضارة أتباع النبي لم يظهروا من بين الأعراب.

ويستخف الأعراب بسلطان الحضارة، ويفضلون عليها عيش البادية، وهذه من المشاعر الموروثة التي ترى مثلها عند هنود أمريكية ولا يؤثر فيها أي دليل، ورفض الأعراب، في سورية على الخصوص، كل أرضٍ عرضت عليهم ليستقروا بها، ويعرف هؤلاء الأعراب، الذين يستوقف نبلهم وبأسهم نظر كل سائح، كيف يستغنون عن نعم الحضارة المصنوعة، وعن جبروت كل أمير إقطاعي كأمراء القرون الوسطى، ولا تخلو حياة البادية من السحر والجمال مع ذلك، ولا أتردد ثانية في ترجيحها على حياة المصانع التي يقضي العامل فيها اثنتي عشرة ساعة من كل يوم.

<<  <   >  >>