فيها، ولا تستهويه سوى ظواهر الأمور، ويبهره الضجيج والضوضاء والبهرج، وفي فتنه سر اجتذابه.
وأمرٌ مثل هذا يشاهد في العروق، والأمم الفطرية، وما إليها من النساء والصبية الذين هم عنوان أدوار التطور البشري الأولي، والحق أن الأعرابي جلفٌ ذكي لم يصعد درجةً في سلم الحضارة منذ ألوف السنين، ولم يعان ما عاناه الرجل المتمدن من التحول المتراكم بتوالي الأجيال، وإذا صح ما نعتقده من أن اختلاف السجايا الخلقية يكفي الوجود فروقٍ بعيدة الغور بين الناس أمكننا أن نقول:«إنه يتألف من العرب المتحضرين والأعراب عرقان تفصل بينهما هوة عميقة».
ويختلف عرب الجزيرة الحضريون، الذين نبحث في أمرهم الآن، عن أولئك الأعراب اختلافاً كبيراً، فأهل الحضر من عرب الجزيرة لم يكونوا أجلافاً كما يعتقد على العموم، وعند بلغريق أن السياح الذين لم يزوروا سوى بعض الأماكن الساحلية التي لا أهمية لها في جزيرة العرب الواسعة هم مصدر هذا الرأي الفاسد، وينظر بلغريق إلى أهل عمان بعين التقدير والإعجاب حيث يبحث في ثقافتهم، ولا يصعب، كما يرى، وجود أناس من أهل نجد قادرين، كالإنكليز، على صنع الآلات ومدَّ الخطوط الحديد، وليس من المجهول شأن جامعة زبيد وجامعة ذمار اليمنيتين اللتين، وإن كانتا دون جامعة الأزهر المصرية أهميةً، تساعدان مثلها على نشر العلم القويم بين أولي البصائر من الأهلين.
ومن دأبنا في الوقت الحاضر أن ننظر إلى عرب الجزيرة من خلال المثل الكئيبة التي نراها في سورية ومصر والجزائر، والتي لا تنم إلا على أناس أحطتهم ضروب الاختلاط والعبودية، وعلى الباحث الذي يرغب في استبار العرب أن يسيح في مهد العروبة، وأن يدرس أحوال العرب فيها عن كثب، فقد عد بلغريق عرب الجزيرة الذين عاش بينهم زمناً طويلاً من أعظم أمم الأرض كرماً ونبلاً، قال بلغريق:
إن أهل الحضر من العرب من أنبل شعوب الأرض وأكرمهم، وهم جديرون بهذا المديح، وقد أكثرت من السياحة في أنحاء العالم، وكانت لي صلات وثيقة بمختلف الأمم الإفريقية والآسيوية والأوربية، فظهر لي أن الأمم التي يفضل أفرادها على سكان جزيرة العرب الوسطي قليلة إلى الغاية.
ويتكلم أولئك الحضريون العرب بلغة الأعراب مع ذلك، ويجري في عروقهم ما يجري في عروق الأعراب من الدماء، وما أبعد المسافة بين الفريقين!