للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَذَكَرَ أَبُو الوَليدِ هِشَامٌ (١) حَدِيثَ: "لَيسَ مِنَ البِرِّ الصِّيَامُ في السَّفَر". فقَال: احْتَجَّ بِهِ أَهْلُ الظَّاهِرِ بِأَنْ قَالُوا: إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ البِرِّ فَهُوَ إِذًا مِنَ الإثْمِ. قَال: ولَا حُجَّةَ في هَذَا؛ لأنَّ هَذَا خُصُوْصٌ خَرَجَ بِلَفْظِ العُمُوْمِ، وَإِنَّمَا قَالهُ - صلى الله عليه وسلم - في رَجُل رَآهُ وَهُوَ صَائِمٌ قَدْ ظُلِّلَ عَلَيهِ وَهُوَ يَجُوْدُ بِنَفْسِهِ، وأَيضًا فَإِنَّ نَفْي النَّفْي لا يَلزَمُ مِنْه إِثْبَاتُ ضِدّهِ وخِلَافِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَكَ: لَيسَ زَيد مِنَ الرِّجَالِ لا يُوْجِبُ أَنَّ زَيدًا خَارِجٌ مِنْ نَوْعِهِم، وإِنَّمَا أَرَادَ: لَيسَ في الكَمَالِ بِحَيثُ يَسْتَحِقُّ هَذَا الاسْمِ عَلَى الكَمَالِ، والعَرَبُ تُخْرِجُ الكَلَامَ مَخْرَجَ النَّفْيِ ويُرِيدُوْنَ أَنّه لَيسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي فَيَقُوْلُونَ: مَا قُلْتُ شَيئًا، أَي شَيئا يَجِبُ قَوْلُهُ، أَوْ شَيئًا يَنْتمعُ بِه، وَمِنْهُ [قَوْلُهُ تَعَالى] (٢): {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ}، ومِنْهُ قَوْلُهُ [تَعَالى] (٣): {وَمَا رَمَيتَ إِذْ رَمَيتَ} وَهُوَ قَدْ أَوْجَبَهُ بِقَوْلهِ: {إِذْ رَمَيتَ} فَفِي الحَدِيثِ على هَذَا وَجْهَان:

أحَدُهُمَا: لَيسَ مِنَ البِرِّ المُلْزِمِ الصِّيَامُ في السَّفَرِ، فَحَذَفَ الصِّفَةَ كَمَا قَال: "لَيسَ المِسْكِينُ بالطَّوَّافِ" أَي لَيسَ المِسْكِينُ الشَّدِيدُ المَسْكَنَةِ".

والثَّاني: لَيسَ مِنَ البِرِّ الصِّيَامُ المُؤَدِّي إِلَى هَذ الحَالِ، فَفِي هَذَا الوَجْهِ حَذْفُ صِفَةِ الصّيَامٍ، وفي الأوَّلِ حَذْفُ صِفَةِ البِرِّ.

- وَذَكَرَ قَوْلهُ [تَعَالى] (٤): {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ}. وَقَوْلَ عَلِي: "مَنْ أدْرَكَهُ الشَّهْرُ وَهُوَ مُسافرٌ فَعَلَيهِ عِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَرَ، وَمَنْ أدْرَكَهُ وَهُوَ مُقِيمٌ فَعَلَيهِ


(١) هو المؤلِّف نفسه.
(٢) سورة المرسلات.
(٣) سورة الأنفال، الآية: ١٧.
(٤) سورة البقرة، الآية: ١٥٨.