وَذَكَر القَاضِي عِيَاضٌ أَيْضًا أَنَّ تِلْمِيْذَهُ الفَقِيْهُ أَبَا بَكْرٍ سُفْيانُ بنُ العَاصِ كَانَ يَنْفِي عَنْهُ الرَّأَيُ الَّذِي زُنَّ بِهِ، وَالكِتَابُ الَّذِي نُسِبَ إِلَيْهِ، ثُمَّ عَادَ القَاضِي عِيَاضٌ لِتَأْكِيْدِ ذلِكَ الخَبَرِ فَقَال: "وَقَدْ ظَهَرَ الكِتَابُ وَأَخْبَرَ الثِّقَةُ أنَّهُ رَآهُ، وَعَلَيْهِ سَمَاعُ ثِقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَخَطُّه عَلَيْهِ" (١).
وَهَذَا الخَبَرُ يُؤَكِّدُهُ ثِقَةٌ هُوَ القَاضِي عِيَاضٌ -رحمه الله- كَمَا تَرَى، وَيَنْفِيْهِ ثِقَةٌ هُوَ أَبُو بَحْرٍ سُفْيَانُ، وَهُوَ مِنْ أَهَمِّ تَلامِيْذِ أَبِي الوَليْدِ المُلازِمِيْنَ لَهُ، ويُشَكِّكُ فِي رَأْيِ القَاضِي أَنَّه لَمْ يُصَرِّحْ بِاسْمِ الثِّقَة الَّذِي رَآهُ، وَلَا اسْمِ الثِّقَةِ مِن أَصْحَابِهِ الَّذِي سَمِعَهُ، وَلَا اسْمِ ذلِكَ الكِتَابِ وَعُنْوَانُهُ؟ ! لِذَا نَبْقَى عَلَى حَذَرٍ مِنْ قَبُوْلِ ذلِكَ الخَبَرِ، وَعِنْدَنَا مِنَ الدَّلِيْلِ مِنْ ثقَافَةِ أَبِي الوَليْدِ فِي عُلُوْمِ الأوَائِلِ مِن فَلْسَفَةٍ وَمَنْطِقٍ، وَعِلْمِ الكَلامٍ ... مَا يُرَجِّحُ مِثْلَ هَذَا التَّوجُّهِ عِنْدَ أَبي الوَليْدِ -عَفَا اللهُ عَنْهُ وَرَحِمَهُ-، وَهَذا التَّوَجُّهُ يَنْدُرُ وُجُوْدُهُ عِنْدَ عُلَمَاءِ أَهْلِ الأَنْدَلُسِ، وَهُوَ مُسْتَغْرَبٌ جِدًّا، وَخَاصَّةً المُتَقَدِّمِيْنَ مِنْهُم، وَهُوَ مَحَلُّ انْتِقَادٍ شَدِيْدٍ، وَلَا تكَادُ تَظْهَرُ مُؤَلَّفَاتُ المُعْتَزِلَةِ فِي بِلادِهِمْ إِلَّا نَادِرًا، وَأَكْثَرُ مِنْ هَذَا غَرَابَةً أَنْ يَظْهَرُ مِثْلَ هَذَا عِنْد أَنْدَلُسِيٍّ لَمْ يَرْحَلْ إِلَى المَشْرْقِ كَأَبي الوَليْدِ.
وَخُلاصَةُ القَوْلِ: أَنَّنَا نَتَوَقَّفُ فِي هَذِهِ القَضِيَّةِ فَلَا نَتَّهِمُهُ بِالاعْتِزَالِ، وَلَا نَنْفِيْهِ عَنْهُ. وَلَمْ نَجِدْ فِي كِتَابِهِ "التَّعْلِيْقِ عَلَى المُوَطَّأ" مَا يُؤَكِّدُ نَزْعَتَهُ الاعْتِزَالِيَّة، وَمَا ذَهَبْتُ إِلَيْهِ مِنَ التَّوَقُّفِ فِي حَالِهِ أرجِّحُ أنَّه رَأَيُ شَيْخِ المُؤَرِّخِيْن الحَافِظُ الذَّهَبِيُّ، فَقَد ذَكَرَ الخَبَرَ وَلَمْ يُعَلِّقْ عَلَيْهِ بشَيْءٍ، فَكَأَنَّ الحَافِظَ لَمْ يُثْبِتْهُ وَلَمْ يَنْفِه.
(١) معجم البُلدان (٥/ ٤٣٨).
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute