ومثل السلطان إذا أجحف بأهل الخراج حتى يضعفوا عن عمارة الأرضين مثل من يقطع لحمه ويأكله من الجوع فهو إن شبع من ناحية فقد ضعف من ناحية أخرى، وما أدخل على نفسه من الضعف والوجع أعظم مما دفع عن نفسه من ألم الجوع.
ومثل من كلف الرعية فوق طاقتهم كالذي يطين سطحه بتراب أساس بيته. وإذا ضعف المزارعون عجزوا عن عمارة الأرضين فيتركونها فتخرب الأرض ويهرب المزارعون فتضعف العمارة ويضعف الخراج وينتج من ذلك ضعف الأجناد وإذا ضعف الجند طمع الأعداء في السلطان.
وروي أن المأمون أرق ذات ليلة فاستدعى سميرا يحدثه فقال يا أمير المؤمنين كان بالموصل بومة وبالبصرة بومة فخطبت بومة الموصل بنت بومة البصرة لابنها، فقالت بومة البصرة لا أجيب خطبة ابنك حتى تجعلي في صداق ابنتي مائة ضيعة خربة، فقالت بومة الموصل لا أقدر عليها لكن إن دام وإلينا سلمه الله علينا سنة واحدة فعلت ذلك، قال: فاستيقظ لها المأمون وجلس للمظالم وأنصف الناس بعضهم من بعض وتفقد أمور الولاة والعمال والرعية.
وقال أبو الحسن بن علي الأسدي: أخبرني أبي قال:
وجدت في كتاب قبطي باللغة الصعيدية مما نقل بالعربية أن مبلغ ما كان يستخرج لفرعون في زمن يوسف الصديق صلوات الله وسلامه عليه من أموال مصر لخراج سنة واحدة من الذهب العين أربعة وعشرون ألف ألف وأربعمائة دينار «٢» ، من ذلك ما ينصرف في عمارة البلاد كحفر الخلجان والانفاق على الجسور وسد الترع وتقوية من يحتاج إلى التقوية من غير رجوع عليه بها لأقامة العوامل والتوسعة في البلدان وغير ذلك من الآلات وأجرة من يستعان به لحمل البذر وسائر نفقات تطبيق الأرض، ثمانمائة ألف دينار ولما ينصرف للأرامل والأيتام وإن كانوا غير محتاجين حتى لا يخلو أمثالهم من بر فرعون أربعمائة ألف دينار، ولما ينصرف لكهنتهم وبيوت صلاتهم مائتا ألف دينار، ولما ينصرف في الصدقات مما يصب صبا وينادى عليه، برئت الذمة من رجل كشف وجهه لفاقة ولم يحضر، فيحضر لذلك جمع كثير، مائتا ألف دينار. فإذا فرقت الأموال على أربابها دخل أمناء فرعون إليه وهنّأوه بتفرقة الأموال ودعوا له بطول البقاء ودوام العز والنعماء والسلامة، ثم نهوا إليه حال الفقراء فيأمر باحضارهم وتغيير شعثهم ويمد لهم السماط فيأكلون بين يديه ويشربون ويستفهم من كل واحد منهم عن سبب فاقته فإن كان ذلك من آفة الزمان زاد عليه مثل الذي كان له، ولما ينصرف في نفقات فرعون الراتبة في كل سنة مائتا ألف دينار ويفضل بعد ذلك مما يتسلمه يوسف الصديق عليه السلام للملك ويجعله في بيت المال لنوائب الزمان أربعة عشر ألف ألف وستمائة ألف دينار.
وقال أبو رهم كانت أرض مصر أرضا مدبرة حتى أن الماء ليجري تحت منازلها وأفنيتها فيحبسونه حيث شاءوا ويرسلونه حيث شاءوا، وذلك قول فرعون: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي
«٣» . الآية.
وكان ملك مصر عظيما لم يكن في الأرض أعظم منه ملكا وكانت الجنان بحافتي النيل متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء، والزروع كذلك من أسوان إلى رشيد وكانت أرض مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعا لما دبروا من جسورها وحافاتها والزروع ما بين الجبلين من أولها إلى آخرها، وذلك قوله تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ٢٥ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ ٢٦
«٤» .
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: استعمل فرعون هامان على حفر خليج سردوس فأخذ في حفره وتدبيره، فجعل أهل القرى يسألونه أن يجري لهم الخليج تحت قراهم ويعطوه مالا فكان يذهب به من قرية إلى قرية من المشرق إلى المغرب ومن الشمال إلى القبلة ويسوقه كيف أراد وإلى حيث قصد، فليس خليج بمصر أكثر عطوفا منه فاجتمع له من ذلك أموال عظيمة جزيلة فحملها إلى فرعون وأخبره بالخبر، فقال له فرعون: إنه ينبغي للسيد أن يعطف على عبده ويفيض عليه من خزائنه وذخائره ولا يرغب فيما