بأيديهم، رد على أهل القرى أموالهم، فرد عليهم ما أخذه منهم.
فإذا كانت هذه سيرة من لا يعرف الله ولا يرجو لقاءه ولا يخاف عذابه ولا يؤمن بيوم الحساب، فكيف تكون سيرة من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله ويوقن بالحساب والثواب والعقاب.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:
اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ
«١» . قال: هي خزائن مصر، ولما استوثق أمر مصر ليوسف عليه السلام، وكمل، وصارت الأشياء إليه وأراد الله تعالى أن يعوضه على صبره، لما لم يرتكب محارمه وكانت مصر أربعين فرسخا في مثلها، وما أطاع يوسف فرعون وهو الريان بن مصعب وناب عنه إلا بعد أن دعاه إلى الإسلام فأسلم، وكانت السنون التي حصل فيها الغلاء والجوع مات العزيز وتملك يوسف، وافتقرت زليخا، وعمي بصرها فجعلت تتكفّف الناس «٢» فقيل لها: لو تعرضت للملك ربما يرحمك ويعينك ويغنيك فطالما كنت تحفظينه وتكرمينه، ثم قيل لها لا تفعلي لأنه ربما يتذكر ما كان منك إليه من المراودة والحبس فيسيء إليك ويكافئك على ما سبق منك إليه.
فقالت: أنا أعلم بحلمه وكرمه، فجلست له على رابية في طريقه يوم خروجه وكان يركب في زهاء مائة ألف من عظماء قومه وأهل مملكته، فلما أحست به قامت ونادت سبحان من جعل الملوك عبيدا بمعصيتهم والعبيد ملوكا بطاعتهم.
فقال يوسف عليه السلام: من أنت؟
فقالت: أنا التي كنت أخدمك بنفسي وأرجّل «٣» شعرك بيدي وأكرم مثواك بجهدي وكان مني ما كان، وقد ذقت وبال أمري وذهبت قوتي وتلف مالي وعمي بصري وصرت أسأل الناس، فمنهم من يرحمني ومنهم من لا يرحمني، وبعدما كنت مغبوطة أهل مصر «٤» كلها صرت مرحومتهم بل محرومتهم وهذا جزاء المفسدين، فبكى يوسف عليه السلام بكا، شديدا وقال لها: هل في قلبك من حبك إياي شيء؟ قالت: نعم والذي اتخذ إبراهيم خليلا لنظرة إليك أحب إلي من ملء الأرض ذهبا وفضة، فمضى يوسف وأرسل إليها يقول إن كنت أيّما تزوجناك وإن كنت ذات بعل أغنيناك. فقالت لرسول الملك: أنا أعرف أنه يستهزىء بي هو لم يردني في أيام شبابي وجمالي، فكيف يقبلني وأنا عجوز عمياء فقيرة؟
فأمر بها يوسف عليه السلام فجهزت وتزوج بها وأدخلت عليه فصف يوسف عليه السلام قدميه وقام يصلي ودعا الله تعالى باسمه العظيم الأعظم، فرد الله عليها حسنها وجمالها وشبابها وبصرها كهيئتها يوم راودته فواقعها، فإذا هي بكر فولدت له إفرائيم بن يوسف ومنشا بن يوسف وطاب في الإسلام عيشهما حتى فرق الموت بينهما.
فينبغي للقوي أن لا ينسى الضعيف وللغني أن لا ينسى الفقير، فرب مطلوب يصير طالبا ومرغوب فيه يصير راغبا، ومسؤول يصير سائلا، وراحم يصير مرحوما، فنسأل الله تعالى أن يرحمنا برحمته ويغنينا بفضله.
ولما ملك يوسف عليه السلام خزائن الأرض كان يجوع ويأكل من خبز الشعير، فقيل له: أتجوع وبيدك خزائن الأرض؟ فقال: أخاف أن أشبع فأنسى الجائع.
ومن حسن سيرة العمال ما روي أن عمر رضي الله عنه استعمل على حمص رجلا يقال له: عمير بن سعد، فلما مضت السنة كتب إليه عمر رضي الله عنه إن أقدم علينا، فلم يشعر عمر إلا وقد قدم عليه ماشيا حافيا عكازته بيده وإداوته «٥» ومزوده «٦» وقصعته على ظهره، فلما نظر إليه عمر قال له: يا عمير أأجبتنا أم البلاد بلاد سوء؟ فقال يا أمير المؤمنين: أما نهاك الله أن تجهر بالسوء، وعن سوء الظن؟ وقد جئت إليك بالدنيا أجرّها بقرابها، فقال له: وما معك من الدنيا؟ قال: عكازة أتوكأ عليها وأدفع بها عدوا إن لقيته ومزود أحمل فيه طعامي وإداوة أحمل فيها ماء لشربي ولطهوري، وقصعة أتوضأ فيها وأغسل فيها رأسي وآكل فيها طعامي، فو الله يا أمير المؤمنين ما الدنيا بعد إلا تبع لما معي.
قال: فقام عمر رضي الله عنه من مجلسه إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه، فبكى بكاء شديدا، ثم قال: اللهم ألحقني بصاحبي غير مفتضح ولا مبدل، ثم عاد إلى مجلسه، فقال: ما صنعت في عملك