للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقيل: لا يتكبر إلا كل وضيع، ولا يتواضع إلا كل رفيع، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الباب الثامن والعشرون في الفخر والمفاخرة والتفاضل والتفاوت

فمن شواهد المفاخرة قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ١٨

«١» . نزلت في علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وعقبة بن أبي معيط، وكانا تفاخرا، وقوله تعالى: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ

«٢» . نزلت في أبي جهل، وعمار بن ياسر، والنسب إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف الأنساب، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» ، وقد نفى الله تعالى الفخر بالأنساب بقوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ

«٣» . فالفخر في الإسلام بالتقوى.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن نبيكم واحد وإن أباكم واحد، وأنه لا فضل لعربي على عجمي ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، ألا هل بلغت» ؟» .

وقال الأصمعي: بينما أنا أطوف بالبيت ذات ليلة إذ رأيت شابا متعلقا بأستار الكعبة وهو يقول:

يا من يجيب دعا المضطر في الظّلم ... يا كاشف الضر والبلوى مع السقم

قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا ... وأنت يا حيّ يا قيوم لم تنم

أدعوك ربّي حزينا هائما قلقا ... فارحم بكائي بحق البيت والحرم

إن كان جودك لا يرجوه ذو سفه ... فمن يجود على العاصين بالكرم

ثم بكى بكاء شديدا وأنشد يقول:

ألا أيّها المقصود في كلّ حاجتي ... شكوت إليك الضرّ فارحم شكايتي

ألا يا رجائي أنت تكشف كربتي ... فهب لي ذنوبي كلها واقض حاجتي

أتيت بأعمال قباح رديئة ... وما في الورى عبد جنى كجنايتي «٤»

أتحرقني بالنار يا غاية المنى ... فأين رجائي ثم أين مخافتي

ثم سقط على الأرض مغشيا عليه، فدنوت منه، فإذا هو زين العابدين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، فرفعت رأسه في حجري وبكيت، فقطرت دمعة من دموعي على خده ففتح عينيه وقال: من هذا الذي يهجم علينا؟ قلت: عبيدك الأصمعي، سيدي ما هذا البكاء والجزع، وأنت من أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة؟ أليس الله تعالى يقول:

إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً

«٥» . فقال: هيهات هيهات يا أصمعيّ إن الله خلق الجنة لمن أطاعه، ولو كان عبدا حبشيا، وخلق النار لمن عصاه ولو كان حرا قرشيا، أليس الله تعالى يقول: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ ١٠١ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ١٠٢ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ ١٠٣

«٦» .

والفخر وإن نهت عنه الأخبار النبوية ومجّته العقول الذكية إلا أن العرب كانت تفتخر بما فيها من البيان طبعا لا تكلفا، وجبلة «٧» لا تعلما، ولم يكن لهم من ينطق بفضلهم إلا هم ولا ينبه على مناقبهم سواهم.

وكان كعب بن زهير إذا أنشد شعرا قال لنفسه: أحسنت وجاوزت والله الإحسان، فيقال له: أتحلف على شعرك؟

فيقول: نعم لأني أبصر به منكم. وكان الكميت إذا قال قصيدة صنع لها خطبة في الثناء عليها، ويقول عند إنشادها: أي علم بين جنبي وأي لسان بين فكي.

وقال الجاحظ، ولم يصف الطبيب مصالح دوائه للمعالجين ما وجد له طالب. ولما أبدع ابن المقفع في رسالته التي سماها باليتيمة تنزيها لها عن المثل، سكنت

<<  <   >  >>