لقد جرّعتني ليالي الفراق ... شرابا أمرّ من الحنظل
وروي أنه كان له فص فوقع منه يوما في الدجلة، وكان عنده دعاء مجرب لرد الضالة إذا دعا به عادت، فدعا به فوجد الفص في وسط أوراق كان يتفحصها، وصورة الدعاء أن تقول: يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه إجمع عليّ ضالتي. وقد روي أنه يقرأ قبله سورة الضحى ثلاثا، وروى الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخه قال: ودعت في بعض حجاتي المزين الكبير الصوفي، فقلت: زودني شيئا فقال: إن فقدت شيئا أو أردت أن يجمع الله بيني وبينك أو بينك وبين إنسان، فقل: يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع بيني وبين كذا، فإن الله يجمع بينك وبين ذلك الشيء أو الإنسان.
ومنهم سيدي معروف بن فيروز الكرخي. قدس الله سره: يكنى أبا محفوظ من كبار المشايخ مجاب الدعوة وهو أستاذ السرّي، وكان أبواه نصرانيين، فأسلماه إلى مؤدبهم وهو صبي، فكان المؤدب يقول له: قل هو ثالث ثلاثة، فيقول: بل هو الواحد الصمد، فضربه المؤدب على ذلك ضربا وجيعا، فهرب منه، فكان أبواه يقولان:
ليته يرجع إلينا على أي دين شاء، فنوافقه عليه، فرجع إلى أبويه، فدق الباب فقيل: من بالباب، فقال: معروف، فقيل: على أي دين، فقال: على دين الإسلام، فأسلم أبواه، وكان مشهورا بإجابة الدعوة، ومن كلامه رضي الله عنه: إذا أراد الله بعبد خيرا فتح له باب العمل، وأغلق باب الفترة والكسل، وكان يعاتب نفسه ويقول:
يا مسكين كم تبكي وتندب أخلص تخلص، وقال سري:
سألت معروفا عن الطائعين لله بأي شيء قدروا على الطاعات لله عز وجل؟ قال: بخروج حب الدنيا من قلوبهم ولو كانت في قلوبهم لما صحت لهم سجدة، ومن إنشاداته:
الماء يغسل ما بالثوب من درن «١» ... وليس يغسل قلب المذنب الماء
وقال إبراهيم الأطروش: كان معروف قاعدا يوما على الدجلة ببغداد، فمر بنا صبيان في زورق يضربون بالملاهي ويشربون، فقال له أصحابه: أما ترى هؤلاء يعصون الله تعالى على هذا الماء؟ فادع عليهم، فرفع يديه إلى السماء وقال: إلهي وسيدي كما فرحتهم في الدنيا أسألك أن تفرحهم في الآخرة، فقال له أصحابه: إنما سألناك أن تدعو عليهم، ولم نقل لك ادع لهم، فقال: إذا فرحهم في الآخرة تاب عليهم في الدنيا ولم يضركم ذلك.
وقال سري: رأيت معروفا في المنام كأنه تحت العرش والله تعالى يقول لملائكته: من هذا؟ فقالوا: أنت أعلم يا رب، قال: هذا معروف الكرخي سكر بحبي لا يفيق إلا بلقائي، وقيل له في مرضه: أوص، فقال: إذا مت فتصدقوا بقميصي هذا، فإني أحب أن أخرج من الدنيا عريانا كما دخلتها عريانا. وقال أبو بكر الخياط: رأيت في المنام كأني دخلت المقابر، فإذا أهل القبور جلوس على قبورهم وبين أيديهم الريحان، وإذا أنا بمعروف الكرخي بينهم يذهب ويجيء، فقلت: يا أبا محفوظ؛ ما فعل الله بك؟ أو ليس قد مت؟ قال: بلى. ثم أنشد يقول:
موت التقيّ حياة لا نفاد لها ... قد مات قوم وهم في الناس أحياء
ومنهم قاسم بن عثمان الكرخي: يكنى أبا عبد الملك من أجلاء المشايخ صحب أبا سليمان الداراني وغيره، وكان من أقران السري والحارث المحاسبي، وكان أبو تراب النخشبي يصحبه، ومن كلامه: من أصلح فيما بقي من عمره غفر له ما مضى وما بقي، ومن أفسد فيما بقي من عمره أخذ بما مضى وما بقي.
وقال: السلامة كلها في اعتزال الناس، والفرح كله في الخلوة بالله عز وجل، وسئل عن التوبة، فقال: التوبة رد المظالم وترك المعاصي وطلب الحلال وأداء الفرائض.
وقال لأصحابه: أوصيكم بخمس: إن ظلمتم فلا تظلموا، وإن مدحتم فلا تفرحوا، وإن ذممتم فلا تحزنوا، وإن كذّبتم فلا تغضبوا، وإن خانوكم فلا تخونوا.
وقال محمد بن الفرج: سمعت قاسم بن عثمان يقول:
إن لله عبادا قصدوا الله بهممهم فأفردوه بطاعتهم واكتفوا به في توكلهم، ورضوا به عوضا عن كل ما خطر على قلوبهم من أمر الدنيا، فليس لهم حبيب غيره، ولا قرة عين إلا فيما قرب إليه، وكان يقول: قليل العمل مع المعرفة خير من كثير العمل بلا معرفة، ثم قال: اعرف وضع رأسك ونم، فما عبد الله الخلق بشيء أفضل من المعرفة.
وروي عنه أنه قال: رأيت في الطواف حول البيت رجلا فتقربت منه، فإذا هو لا يزيد على قوله: اللهم قضيت حاجة المحتاجين وحاجتي لم تقض، فقلت له: ما لك لا تزيد على هذا الكلام؟ فقال: أحدثك، كنا سبعة رفقاء