قدس الله سره وروحه ونور ضريحه، كان أوحد زمانه في الزهد والورع قامعا لأهل الضلال والبدع، وله أسرار ظاهرة وبركات متواترة. قد أطاع أمره الخلائق عجما وعربا، وانتشر ذكره في البلاد شرقا وغربا وأتت الملوك إلى بابه واختاروا أن يكونوا من جملة أصحابه، ما أتاه مكروب إلا فرج الله كربته ولا طالب حاجة إلا قضى الله حاجته، كان محافظا على النوافل ملازما للفرض، وكان أكثر أكله من المباح من نبات الأرض، لم يمنع نفسه في الدنيا بالمآكل والمشارب اللذيذة بل قيل: إنه غضب على نفسه مرة فمنعها شرب الماء شهورا عديدة، وكان رضي الله عنه كثير الشفقة والحنو على أصحابه نصوحا لجميع خلق الله من أعدائه وأحبابه، يدخل عليه أعدى عدوه، فيقبل ببشره وبره عليه، فيخرج عنده وهو أحب الناس إليه، كما قال بعضهم:
فأمنحه بشري فيرجع قلبه ... سليما وقد ماتت لديه الضغائن
وكانت حملة أهل زمانه عليه وأحوالهم في كل أمر راجعة إليه، وكنت كثيرا ما أسمعه يتمثل بهذا البيت:
وما حمّلوني الضيم إلّا حملته ... لأني محبّ والمحبّ حمول
وكان رضي الله عنه كثير المصافاة عظيم الموافاة، شأنه الحلم والستر لم يهتك حرمة مسلم ولا فضحه، وما استشاره أحد في أمر إلا أرشده إلى الخير ونصحه، صحبته رضي الله عنه نحو خمس عشرة سنة، فكأنها من طيبها كانت سنة، ما قطع بره يوما واحدا عني حتى كنت أظن أن ليس عنده أخص مني، وكان ذلك فعله مع جميع أصحابه قاطبة. بيّض الله وجهه في القيامة، وبلغه من فضل ربه مآربه، وكان رضي الله عنه فقيها في مذهب الإمام مالك، إمام كبير لم ير له في زمانه من شبيه ولا نظير، وله في علم الحقيقة أقوال، وكم رأينا له من مكاشفات وأحوال ولو تتبعت مناقبه لا تسع الكلام، ولكني أقول: كان أوحد عصره والسلام.
عاش رضي الله عنه نيفا وستين سنة، وكان الناس في زمانه في عيشة راضية، وأحوال حسنة، وكان رضي الله عنه كثير الأمراض والأسقام حصل له في آخر عمره ضعف شديد أقام به نحو سنة، ثم تزايد مرضه في العشر الأول من ذي الحجة الحرام، فلما كانت ليلة الحادي عشر اشتد به الأمر واحتضر، ولم يزل في النزع إلى ثلث الليل الأول من الليلة المذكورة، ثم توفي رحمه الله تعالى سعيدا حميدا في ليلة الجمعة حادي عشر ذي الحجة الحرام سنة سبعة وعشرين وثمانمائة، ولما أخبر الناس بوفاته عظم مصابه على المسلمين، ووقع النوح والبكاء والأسف في أقطار البلدان حتى طوائف المخالفين للملة من النصارى وغيرهم، وصاروا يبكون ويتوجعون ويتأسفون على فراقه، وكيف لا، وهو إمام العصر، علامة الدهر حق فيه قول القائل:
حلف الزمان ليأتين بمثله ... حنثت يمينك يا زمان فكفّر
رضي الله عنه ورضي عنا به، ونفعنا ببركته في الدين والدنيا والآخرة، فشرعوا في تجهيزه وغسله، فكنت ممن حضر غسله، ولكن لم يكن ذهني معي في تلك الساعة لما جرى علينا من المصيبة بفقده، كيف لا، وقد كان والدا شفوقا وبارا محسنا عشوقا، فلما انتهى غسله رضي الله عنه جاء القضاء والنواب والكشاف والولاة وحملوه على أعناقهم ومضوا به إلى جامع الخطبة بالمحلة فضاق بهم الجامع على سعته، وضاقت بهم الشوارع والسكك والطرقات من كثرة الناس، فلم ير أكثر جمعا ولا أغزرها دمعا من ذلك اليوم، وهذا دليل على أنه كان قطب أهل زمانه.
قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: بيننا وبينهم الجنائز. يريد بذلك اجتماع الناس، والله أعلم. فارتفع نعشه على أعناقهم وتقدم للصلاة شيخه العارف بالله تعالى سيدي سليمان الدواخلي نفعنا الله ببركته، ودفن يوم الجمعة بزاويته التي أنشأها بسندفا مع والده الشيخ الإمام العالم العلامة مفتي المسلمين سراج الدين أبي حفص عمر الطريني المالكي في قبر واحد. نفعنا الله ببركته، وجعل الجنة منقلبه ومثواه، وحشرنا وإياه في زمرة سيد الأولين والآخرين محمد خاتم النبيين، وأفضل المسلمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ونسأله لنا التوفيق والإعانة، وأن يمتع المسلمين بطول بقاء أخيه سيدنا ومولانا الشيخ شمس الدين محمد الطريني أدام الله أيامه للمسلمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.