للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الركوة والعصا ولبس المرقعة وسار، وتركني أتحرق وأبكي لما حرمت من ذلك، وأقمت يومي ذلك أبكي إلى الليل، ثم نمت فرأيت رب العزة جل جلاله في النوم، فقال:

يا عبدي أثقل عليك إن مننت على عبد عاص بالرجوع إليّ، إنما ذلك فضلي أوتيه من أشاء من عبادي، وأنا ذو الفضل العظيم.

وحكى أبو إسحاق الصعلوكي قال: خرجت سنة إلى الحج، فبينما أنا في البادية تائه، وقد جن الليل وكانت ليلة مقمرة إذ سمعت صوت شخص ضعيف يقول: يا أبا إسحاق قد انتظرتك من الغداة، فدنوت منه فإذا هو شاب نحيف الجسم قد أشرف على الموت، وحوله رياحين كثيرة منها ما أعرف ومنها ما لا أعرف، فقلت له: من أنت، ومن أين أنت؟ قال: من مدينة شمشاط كنت في عزة ورفعة، فطالبتني نفسي بالغربة والعزلة، فخرجت، وقد أشرفت الآن على الموت فدعوت الله تعالى أن يقيض لي وليا من أوليائه وأرجو أن تكون أنت هو.

فقلت: ألك حاجة؟ قال: نعم لي والدة وأخوة وأخوات، فقلت: هل اشتقت إليهم قط؟ قال: لا. إلا اليوم اشتقت أن أشم ريحهم، فهممت أريدهم فاحتوشتني السباع «١» والهوام وبكين معي، وحملوا إليّ هذه الرياحين التي تراها.

قال أبو إسحاق: فبينما أنا معه يرق له قلبي وإذا بحية عظيمة في فمها باقة نرجس كبيرة، فقالت: دع ولي الله تعالى، فإن الله يغار على أوليائه، قال: فغشي عليه، وغشي عليّ، فما أفقت إلا وهو قد خرجت روحه رحمه الله، قال: فدخلت مدينة شمشاط بعدما حججت فاستقبلتني امرأة بيدها ركوة ما رأيت أشبه بالشاب منها، فلما رأتني نادت: يا أبا إسحاق ما شأن الشاب الغريب الذي مات غريبا، فإني منتظرتك منذ كذا «٢» ؟

فذكرت لها القصة إلى أن قلت لها أشم ريحهم، فصاحت أواه أواه قد بلغ والله الشم، ثم شهقت شهقة خرجت روحها فخرج إليها بنات أتراب عليهن مرقعات ومروط «٣» ، فكفلن أمرها وتولين دفنها وهن مستترات رضوان الله على الجميع.

(شعر) :

يا نسيما هبّ من وادي قبا ... خبريني كيف حال الغربا

كم سألت الدهر أن يجمعنا ... مثل ما كنّا عليه فأبى

وحكي أن رجلا كان يعرف بدينار العيّار «٤» وكان له والدة صالحة تعظه وهو لا يتعظ، فمر في بعض الأيام بمقبرة، فأخذ منها عظما، فتفتت في يده، ففكر في نفسه وقال: ويحك يا دينار كأني بك وقد صار عظمك هكذا رفاتا والجسم ترابا، فندم على تفريطه وعزم على التوبة، ورفع رأسه إلى السماء وقال: إلهي وسيدي ألقيت إليك مقاليد أمري فاقبلني وارحمني.

ثم أقبل نحو أمه متغير اللون منكسر القلب، فقال:

يا أماه ما يصنع بالعبد الآبق «٥» إذا أخذه سيده؟ قالت:

يخشن ملبسه ومطعمه ويغل يديه وقدميه، فقال: أريد جبة من صوف وأقراصا من شعير، وغلّين وافعلي بي كما يفعل بالعبد الآبق لعل مولاي يرى ذلي فيرحمني ففعلت به ما أراد، فكان إذا جنّ عليه الليل أخذ في البكاء والعويل ويقول لنفسه: ويحك يا دينار ألك قوة على النار؟ كيف تعرضت لغضب الجبار، ولا يزال كذلك إلى الصباح.

فقالت له أمه: يا بني أرفق بنفسك، فقال: دعيني أتعب قليلا لعلي أستريح طويلا، يا أماه إن لي غدا موقفا طويلا بين يدي رب جليل ولا أدري أيؤمر بي إلى ظل ظليل أو إلى شر مقيل، قالت: يا بني خذ لنفسك راحة، قال:

لست للراحة أطلب، كأنك يا أماه غدا بالخلائق يساقون إلى الجنة وأنا أساق إلى النار مع أهلها، فتركته وما هو عليه.

فأخذ في البكاء والعبادة وقراءة القرآن، فقرأ في بعض الليالي فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ٩٢ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ٩٣

«٦» . ففكر فيها وجعل يبكي حتى غشي عليه، فجاءت أمه إليه، فنادته، فلم يجبها، فقالت له: يا حبيبي وقرة عيني أين الملتقى؟ فقال بصوت ضعيف يا أماه: إن لم تجديني في عرصات «٧» القيامة، فاسألي مالكا خازن النار عني، ثم شهق شهقة، فمات رحمه الله تعالى.

فغسلته أمه وجهزته، وخرجت تنادي: أيها الناس هلموا

<<  <   >  >>