إلى الصلاة على قتيل النار، فجاء الناس من كل جانب، فلم ير أكثر جمعا ولا أغزر دمعا من ذلك اليوم فلما دفنوه نام بعض أصدقائه تلك الليلة، فرآه يتبختر في الجنة وعليه حلة خضراء، وهو يقرأ الآية فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ٩٢ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ٩٣
«١» ، ويقول: وعزته وجلاله سألني ورحمني وغفر لي وتجاوز عني ألا أخبروا عني والدتي بذلك.
وحكي عن الحسن البصري قال: نزل سائل «٢» بمسجد، فسأل الناس أن يطعموه كسرة، فلم يطعموه، فقال الله تعالى لملك الموت: اقبض روحه، فإنه جائع، فقبض روحه، فلما جاء المؤذن رآه ميتا، فأخبر الناس بذلك، فتعاونوا على دفنه، فلما دخل المؤذن المسجد وجد الكفن في المحراب مكتوبا عليه: هذا الكفن مردود عليكم بئس القوم أنتم استطعمكم فقير، فلم تطعموه حتى مات جوعا، من كان من أحبابنا لا نكله إلى غيرنا.
وحكى أبو علي المصري قال: كان لي جار شيخ يغسل الموتى فقلت له يوما: حدثني أعجب ما رأيت من الموتى، فقال: جاءني شاب في بعض الأيام مليح الوجه حسن الثياب، فقال لي: أتغسل لنا هذا الميت؟ قلت:
نعم. فتبعته حتى أوقفني على باب، فدخل هنيهة، فإذا بجارية هي أشبه الناس بالشاب قد خرجت وهي تمسح عينيها، فقالت: أنت الغاسل؟ قلت: نعم. قالت: بسم الله أدخل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فدخلت الدار وإذا أنا بالشاب الذي جاءني يعالج سكرات الموت، وروحه في لبته، وقد شخص بصره، وقد وضع كفنه وحنوطه عند رأسه، فلم أجلس إليه حتى قبض، فقلت: سبحان الله هذا ولي من أولياء الله تعالى حيث عرف وقت وفاته، فأخذت في غسله، وأنا أرتعد، فلما أدرجته أتت الجارية وهي أخته، فقبلته، وقالت: أما إني سألحق بك عن قريب، فلما أردت الانصراف شكرت لي، وقالت: أرسل إلي زوجتك إن كانت تحسن ما تحسنه أنت، فارتعدت من كلامها وعلمت أنها لاحقة به.
فلما فرغت من دفنه جئت أهلي فقصصت عليها القصة وأتيت بها إلى تلك الجارية، فوقفت بالباب واستأذنت، فقالت: بسم الله تدخل زوجتك، فدخلت زوجتي وإذا بالجارية مستقبلة القبلة وقد ماتت، فغسلتها زوجتي وأنزلتها على أخيها رحمة الله عليهما.
(شعر) :
أأحبابنا بنتم عن الدار فاشتكت ... لبعدكم آصالها وضحاها «٣»
وفارقتم الدار الأنيسة فاستوت ... رسوم مبانيها وفاح كلاها «٤»
كأنّكم يوم الفراق رحلتم ... بنومي فعيني لا تصيب كراها «٥»
وكنت شحيحا من دموعي بقطرة ... فقد صرت سمحا بعدكم بدماها
يراني بسّاما خليلي يظنّ بي ... سرورا وأحشائي السّقام ملاها
وكم ضحكة في القلب منها حرارة ... يشبّ لظاها لو كشفت غطاها «٦»
رعى الله أياما بطيب حديثكم ... تقضّت وحيّاها الحيا وسقاها «٧»
فما قلت إيها بعدها لمسامر ... من الناس إلا قال قلبي آها «٨»
وحكي سري السقطي رحمه الله تعالى قال: أرقت ليلة ولم أقدر على النوم فلما طلع الفجر صليت، فلما أصبحت دخلت المارستان «٩» فإذا أنا بجارية مقيدة مغلولة «١٠» وهي تقول:
تغلّ يدي إلى عنقي ... وما خانت وما سرقت
وبين جوانحي كبد ... أحسّ بها قد احترقت