قال، فقلت للقيم «١» : ما هذه الجارية؟ قال: هذه جارية اختلّ عقلها، فحبست لعلها تصلح، فلما سمعت كلامه تبسمت وقالت:
معشر الناس ما جننت ولكن ... أنا سكرانة وقلبي صاحي
لم غللتم يدي ولم آت ذنبا ... غير هتكي في حبّه وافتضاحي
أنا مفتونة بحبّ حبيب ... لست أبغي عن بابه من براح «٢»
ما على من أحبّ مولى الموالي ... وارتضاه لنفسه من جناح «٣»
قال: فلما سمعت كلامها بكيت بكاءا شديدا، فقالت:
يا سري هذا بكاؤك من الصفة، فكيف لو عرفته حق المعرفة؟ قال: فبينما هي تكلمني إذا جاء سيدها، فلما رآني عظمني، فقلت: والله هي أحق مني بالتعظيم، فلم فعلت بها هذا؟ قال: لتقصيرها في الخدمة، وكثرة بكائها وشدة حنينها وأنينها كأنها ثكلى «٤» لا تنام ولا تدعنا ننام، وقد اشتريتها بعشرين ألف درهم لصناعتها فإنها مطربة، قلت: فما كان بدء أمرها؟ قال: كان العود في حجرها يوما، فجعلت تقول:
وحقّك لا نقضت الدّهر عهدا ... ولا كدّرت بعد الصفو ودّا
ملأت جوانحي والقلب وجدا ... فكيف أقرّ يا سكني وأهدا
فيا من ليس لي مولى سواه ... تراك رضيتني بالباب عبدا
فقلت لسيدها: أطلقها وعليّ ثمنها، فصاح وافقراه من أين لك عشرون ألفا يا سري؟ فقلت: لا تعجل عليّ، فقال: تكون في المارستان حتى توفيني ثمنها، فقلت:
نعم، قال سري: فانصرفت وعيني تدمع وقلبي يخشع، وأنا والله ما عندي درهم من ثمنها، فبت طول ليلتي أتضرع إلى الله تعالى، فإذا بطارق يطرق الباب، ففتحت، فدخل عليّ رجل ومعه ستة من الخدم ومعهم خمس بدر «٥» ، فقال: أتعرفني يا سري؟ قلت: لا، قال: أنا أحمد بن المثنى كنت نائما، فهتف بي هاتف وقال لي: يا أحمد هل لك في معاملتنا؟ فقلت: ومن أولى مني بذلك؟ فقال:
احمل إلى سري السقطي خمس بدر من أجل الجارية الفلانية، فإن لنا بها عناية، قال سري: فسجدت لله شكرا وجلست أتوقع طلوع الفجر، فلما طلع صلينا وذكرنا، وانصرفنا نحوها، فسمعناها تقول:
قد تصبّرت إلى أن ... عيل من حبّك صبري «٦»
ضاق من غلّي وقيدي ... وامتهاني منك صدري
ليس يخفى عنك أمري ... يا منى قلبي وذخري
أنت قد تعتق رقّي ... وتفكّ اليوم أسري
قال سري: فبينما أنا أسمعها، وإذا بمولاها قد جاء وهو يبكي، فقلت: لا بأس عليك قد جئناك برأس مالك وربح عشرة آلاف درهم، فقال: والله لا فعلت ذلك. قلت:
نزيدك. قال: والله لو أعطيتني ما بين الخافقين «٧» ما فعلت، وهي حرة لوجه الله تعالى، فقال: فتعجبت من ذلك، وقلت: ما كان هذا كلامك بالأمس، فقال: حبيبي لا توبخني فالذي وقع لي من التوبيخ كفاني، وأشهدك أني قد خرجت من جميع مالي صدقة في سبيل الله تعالى، وإني هارب إلى الله تعالى، فبالله لا تردني عن صحبتك، فقلت نعم. ثم التفت، فرأيت صاحب المال يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ قال: يا أستاذي ما قبلني مولاي لما ندبني إليه ورد عليّ ما بذلت أشهدك أني قد خرجت من جميع ما أملكه لله تعالى في سبيل الله، وكل عبد أملكه وجارية أحرار لوجه الله تعالى.
قال سري: فقلت: ما أعظم بركتك يا جارية. قال:
فنزعنا الغل من عنقها، والقيد من رجلها، وأخرجناها من المارستان، فنزعت ما كان عليها من ناعم الثياب، ولبست خمارا من صوف ومدرّعة «٨» من شعر وولت، وقال