سري: فتوجهت أنا ومولاها وصاحب المال إلى مكة، فبينما نحن نطوف إذ سمعنا صوتا، فتبعناه فإذا هي امرأة كالخيال، فلما رأتني قالت: السلام عليك يا سري، فقلت لها: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته من أنت؟ فقالت:
لا إله إلا الله وقع الشك بعد المعرفة، فتأملتها، فإذا هي الجارية، فقلت لها: ما الذي أفادك الحق بعد انفرادك عن الخلق؟
فقالت: أنسي به ووحشتي من غيره، ثم توجهت إلى البيت، وقالت: إلهي كم تخلفني في دار لا أرى فيها أنيسا، قد طال شوقي، فعجل قدومي عليك، ثم شهقت شهقة وخرّت ميتة رحمة الله تعالى عليها، فلما نظر إليها مولاها بكى وجعل يدعو ويضعف كلاما إلى أن خرّ إلى جانبها ميتا، رحمة الله عليه، فدفناهما في قبر واحد.
شعر:
بحرمة ما قد كان بيني وبينكم ... من الودّ إلا ما رجعتم إلى وصلي
ولا تحرموني نظرة من جمالكم ... فلن تجدوا عبدا ذليلا لكم مثلي
فو الله ما يهوي فؤادي سواكم ... ولو رشقوه بالأسنّة والنبل
وحكي أنه كان في زمن بني إسرائيل رجل من العباد الموصوفين بالزهد، وكان قد سخر الله له سحابة تسير معه حيث يسير، فاعتراه فتور في بعض الأيام، فأزال الله عنه سحابته وحجب إجابته، فكثر لذلك حزنه وشجونه، وطال كمده وأنينه، وما زال يشتاق إلى زمن الكرامة ويبكي ويتأسف ويتحسر ويتلهف، فقام ليلة من الليالي، فصلى ما شاء الله وبكى وتضرّع «١» ودعا الله تعالى ونام.
فقيل له في المنام: إذا أردت أن يرد الله تعالى عليك سحابتك، فائت الملك الفلاني في بلد كذا واسأله أن يدعو الله لك أن يرد عليك سحابتك، قال: فسار الرجل يقطع الأرض حتى وصل إلى تلك البلد التي ذكرت له في المنام، فدخلها وسأل من يرشده إلى قصر الملك، فجاء إلى القصر وإذا عند بابه غلام جالس على كرسي عظيم من الذهب الأحمر مرصع بالدر والجوهر والناس بين يديه يسألونه حوائجهم، وهو يصرف الناس، فوقف الرجل الصالح بين يديه وسلم عليه، فقال له الغلام: من أين أنت، وما حاجتك؟ فقال من بلاد بعيدة، وقصدي الاجتماع بالملك، فقال له الغلام: لا سبيل لك اليوم، فسل حاجتك أقضها لك إن استطعت، فقال: إن حاجتي لا يقضيها إلا الملك، فقال الغلام: إن الملك ليس له إلا يوم واحد في الجمعة يجتمع إليه الناس فيه، فاذهب حتى يأتي ذلك، فانصرف الرجل إلى مسجد داثر «٢» ، وأقام يعبد الله تعالى فيه، وأنكر على الملك لاحتجابه عن الناس، فلما كان ذلك اليوم الذي يجلس فيه الملك جاء إلى القصر، فوجد خلقا كثيرا عند الباب ينتظرون الإذن، فوقف مع جملة الناس.
فلما خرج الوزير أذن للناس في الدخول، فدخل أرباب الحوائج، ودخل صاحب السحابة معهم، وإذا بالملك جالس وبين يديه أرباب دولته على قدر مراتبهم، فجعل رأس النوبة يقدم الناس واحدا بعد واحد حتى وصلت النوبة لصاحب السحابة، فلما نظر إليه الملك قال: مرحبا بصاحب السحابة، اجلس حتى أفرغ من حوائج الناس، وأنظر في أمرك. قال: فتحير صاحب السحابة في أمره، فلما فرغ الملك من حوائج الناس قام من مجلسه، فأخذ بيد صاحب السحابة وأدخله معه إلى قصره، ثم مشى به في دهليز القصر، فلم يجد في طريقه إلا مملوكا واحدا، فسار به حتى انتهى إلى باب من جريد، وإذا به بناء مهدوم وحيطان مائلة، وبيت خرب فيه برش «٣» وليس هناك ما يساوي عشرة دراهم إلا سجّادة خلقة. وقدح للوضوء وحصيرة رثة وشيء من الخوص «٤» فانخلع الملك من ثياب الملك، ولبس مرقعة من صوف وجعل على رأسه قلنسوة من شعر، ثم جلس وأجلس صاحب السحابة، ونادى يا فلانة، قالت: لبيك. قال: أتدرين من هو الليلة ضيفنا؟ قالت: نعم صاحب السحابة، فدعا بها لحاجة، فخرجت، فإذا هي امرأة كالشن البالي «٥» عليها مسح من شعر خشن «٦» ، وهي شابة صغيرة، قال الرجل: فالتفت إلى الملك، وقال يا أخي نطلعك على حالنا، أو نقضي حاجتك وتنصرف.
فقلت: والله لقد شغلني حالكما عما جئت بسببه، فقال الملك: الله يعلم أنه كان لي في هذا الأمر آباء كرام صالحون يتوارثون المملكة كابرا عن كابر، فلما توفوا إلى