رحمة الله تعالى، ووصل الأمر إليّ بغّص الله إليّ الدنيا وأهلها فأردت أن أسيح في الأرض «١» وأترك الناس ينظرون لهم من يسوس «٢» أمرهم، فيملكونه عليهم، فخفت عليهم دخول الفتنة، وتضييع الدين، والشرائع، وتبديل شمل الدين فبايعوني وأنا والله كاره، فتركت أمورهم على ما كانت عليه، وجعلت السّماط على عادته، والحراس على حالها، والمماليك على دأبها، ولم أغيّر شيئا، وأقعدت المماليك على الأبواب بالسلاح إرهابا لأهل الشرور وردعا عن أهل الخير وتركت القصر مزينا على حاله وفتحت له بابا وهو الذي رأيته يوصلني إلى هذه الخربة، فأدخل فيها وأنزع ثياب الملك وألبس هذا، وأضفر الخوص وأبيعه، وأتقوت من ثمنه أنا وزوجتي هذه التي رأيتها هي ابنة عمي زهدت في الدنيا كزهدي واجتهدت حتى صارت كالشن البالي، والناس لا يعلمون ما نحن فيه ثم إني أقمت لي نائبا ينوب عني طول الجمعة، وعلمت أني مسؤول، فجعلت لي يوما في الجمعة أبرز للناس فيه وأكشف مظالمهم كما رأيت، وأنا على هذه الحالة مدة، فأقم عندنا يرحمك الله حتى نبيع خويصاتنا ونبتاع من ثمنها طعاما وتفطر معنا، وتبيت عندنا الليلة ثم تنصرف بحاجتك إن شاء الله تعالى.
فلما كان آخر النهار دخل علينا غلام خماسي العمر، فأخذ ما عملاه من خوص وسار به إلى السوق، فباعه واشترى من ثمنه خبزا وفولا واشترى بباقي ثمنه خوصا، فلما كان عند الغروب أفطرا وأفطرت معهما وبت عندهما. قال: فقاما في نصف الليل يصليان ويبكيان، فلما كان السحر قال الملك: اللهم إن عبدك هذا يطلب منك رد سحابته وإنك قد دللته علينا، اللهم ارددها عليه إنك على كل شيء قدير، والمرأة تؤمّن على دعائه، وإذا بالسحابة قد طلعت من قبل السماء فقال لي: لك البشارة بقضاء حاجتك وتعجيل إجابتك. قال: فودعتهما وانصرفت والسحابة معي كما كانت، فأنا بعد ذلك لا أسأل الله تعالى بسرهما شيئا إلا أعطاني إياه رحمة الله تعالى عليهما.
شعر:
استعمل الصبر تجني بعده العسلا ... ولازم الباب حتى تبلغ الأملا
ومرّغ الخدّ في أعتابه سحرا ... واحمل لمرضاته في الحبّ كلّ بلا
فما يفوز بوصل يا أخيّ سوى ... صبّ لثقل الهوى والوجد قد حملا
هذا الحبيب ينادي في الدّجى سحرا ... فانهض وكن رجلا بالسعي قد وصلا
وحكي عن مالك بن دينار «٣» رحمه الله تعالى قال:
خرجت إلى مكة حاجا، فبينما أنا سائر إذ رأيت شابا ساكتا لا يذكر الله تعالى، فلما جن الليل رفع وجهه نحو السماء وقال: يا من لا تسره الطاعات، ولا تضره المعاصي، هب لي ما لا يسرك، واغفر لي ما لا يضرك. ثم رأيته بذي الحليفة وقد لبس إحرامه والناس يلبون وهو لا يلبي، فقلت هذا جاهل، فدنوت منه، فقلت له يا فتى، قال:
لبيك، قلت له: لم لا تلبي؟ فقال يا شيخ: وما تغني التلبية، وقد بارزته بذنوب سالفات وجرائم مكتوبات، والله أني لأخشى أن أقول لبيك، فيقول لا لبيك ولا سعديك لا أسمع كلامك، ولا أنظر إليك، فقلت له:
لا تقل ذلك، فإنه حليم إذا غضب رضي، وإذا رضي لم يغضب، وإذا وعد وفى ومتى توعّد عفا، فقال يا شيخ أتشير عليّ بالتلبية؟ قلت: نعم، فبادر إلى الأرض واضطجع ووضع خده على التراب وأخذ حجرا فوضعه على خده الآخر، وأسبل دموعه وقال: لبيك اللهم لبيك قد خضعت لك وهذا مصرعي بين يديك، فأقام كذلك ساعة، ثم مضى، فما رأيته إلا بمنى وهو يقول: اللهم إن الناس ذبحوا ونحروا، وتقربوا إليك، وليس لي شيء أن أتقرب به سوى نفسي، فتقبلها مني ثم شهق شهقة وخرّ ميتا رحمة الله تعالى عليه.
وحكي أنه كان بمدينة بغداد رجل يعرف بأبي عبد الله الأندلسي، وكان شيخا لكل من بالعراق وكان يحفظ ثلاثين ألف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقرأ بجميع الروايات، فخرج في بعض السنين إلى السياحة، ومعه جماعة من أصحابه مثل الجنيد والشبلي وغيرهما من مشايخ العراق. قال الشبلي: فلم نزل في خدمته، ونحن مكرمون بعناية الله تعالى إلى أن وصلنا إلى قرية من قرى الكفار فطلبنا ماء نتوضأ به، فلم نجد، فجعلنا ندور بتلك القرية، وإذا نحن بكنائس وبها شمامسة، وقساوسة