للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ورهبان، وهم يعبدون الأصنام، والصلبان، فتعجبنا منهم ومن قلة عقلهم.

ثم انصرفنا إلى بئر في آخر القرية، وإذ نحن بجوار يستقين الماء على البئر وبينهن جارية حسنة الوجه ما فيهن أحسن ولا أجمل منها وفي عنقها قلائد الذهب.

فلما رآها الشيخ تغير وجهه، وقال: هذه ابنة من؟ فقيل له: هذه ابنة ملك هذه القرية، فقال الشيخ: فلم لا يدللها أبوها ويكرمها ولا يدعها تستقي الماء؟ فقيل له: أبوها يفعل ذلك بها حتى إذا تزوجها رجل أكرمته وخدمته ولا تعجبها نفسها، فجلس الشيخ ونكس رأسه، ثم أقام ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب، ولا يكلم أحدا، غير أنه يؤدي الفريضة، والمشايخ واقفون بين يديه، ولا يدرون ما يصنعون، قال الشبلي: فتقدمت إليه، وقلت له: يا سيدي إن أصحابك ومريديك يتعجبون من سكوتك ثلاثة أيام وأنت ساكت لم تكلم أحدا، قال: فأقبل علينا، وقال:

يا قوم: إعلموا أن الجارية التي رأيتها بالأمس قد شغفت بها حبا، واشتغل بها قلبي، وما بقيت أقدر أفارق هذه الأرض.

قال الشبلي، فقلت يا سيدي: أنت شيخ أهل العراق ومعروف بالزهد في سائر الآفاق، وعدد مريديك اثنا عشر ألفا، فلا تفضحنا وإياهم بحرمة الكتاب العزيز. فقال يا قوم: جرى القلم بما حكم، ووقعت في بحار العدم وقد انحلت عني عرى الولاية، وطويت عني أعلام الهداية، ثم إنه بكى بكاء شديدا، وقال يا قوم: انصرفوا، فقد نفذ القضاء والقدر، فتعجبنا من أمره، وسألنا الله تعالى أن يجيرنا من مكره، ثم بكينا وبكى حتى أروى التراب.

ثم انصرفنا عنه راجعين إلى بغداد، فخرج الناس إلى لقائه، ومريدوه في جملة الناس، فلم يروه، فسألوا عنه، فعرفناهم بما جرى، فمات من مريديه جماعة كثيرة حزنا عليه وأسفا، وجعل الناس يبكون ويتضرعون إلى الله تعالى أن يرده عليهم وغلقت الرباطات، والزوايا والخوانق، ولحق الناس حزن عظيم فأقمنا سنة كاملة، وخرجت مع بعض أصحابي نكشف خبره، فأتينا القرية، فسألنا عن الشيخ، فقيل لنا: إنه في البرية يرعى الخنازير، قلنا: وما السبب في ذلك؟ قالوا: إنه خطب الجارية من أبيها، فأبى أن يزوجها إلا ممن هو على دينها ويلبس العباءة ويشد الزنار، ويخدم الكنائس ويرعى الخنازير، ففعل ذلك كله، وهو في البرية يرعى الخنازير. قال الشبلي: فانصدعت قلوبنا، وانهملت بالبكاء عيوننا، وسرنا إليه، وإذا به قائم قدام الخنازير، فلما رآنا نكس رأسه، وإذا عليه قلنسوة النصارى، وفي وسطه زنار، وهو متوكىء على العصا التي كان يتوكأ عليها إذا قام إلى المحراب، فسلمنا عليه، فرد علينا السلام، فقلنا:

يا شيخ ما ذاك وماذا وما هذه الكروب والهموم بعد تلك الأحاديث والعلوم؟ فقال: يا إخواني وأحبابي ليس لي من الأمر شيء، سيدي تصرف في كيف شاء، وحيث أراد أبعدني عن بابه بعد إن كنت من جملة أحبابه، فالحذر الحذر يا أهل وداده من صده وإبعاده، والحذر الحذر يا أهل المودة والصفاء من القطيعة والجفاء، ثم رفع طرفه إلى السماء وقال: يا مولاي ما كان ظني فيك هذا، ثم جعل يستغيث ويبكي ونادى: يا شبلي اتعظ بغيرك.

فنادى الشبلي بأعلى صوته: بك المستعان وأنت المستغاث، وعليك التكلان. إكشف عنا هذه الغمة بحلمك، فقد دهمنا أمر لا كاشف له غيرك، قال: فلما سمعت الخنازير بكاءهم، وضجيجهم أقبلت إليهم وجعلت تمرغ وجوهها بين أيديهم وزعقت زعقة واحدة دويت منها الجبال.

قال الشبلي: فظننت أن القيامة قد قامت، ثم إن الشيخ بكى بكاء شديدا. قال الشبلي: فقلنا له هل لك أن ترجع معنا إلى بغداد؟ فقال: كيف لي بذلك، وقد استرعيت الخنازير بعد أن كنت أرعى القلوب؟ فقلت يا شيخ كنت تحفظ القرآن وتقرأه بالسبع فهل بقيت تحفظ منه شيئا؟

فقال: نسيته كله إلا آيتين، فقلت: وما هما؟ قال: قوله تعالى: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ

«١» . والثانية قوله تعالى: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ

«٢» . فقلت: يا شيخ كنت تحفظ ثلاثين ألف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل تحفظ منها شيئا؟ قال: حديثا واحدا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه» .

قال الشبلي: فتركناه، وانصرفنا، ونحن متعجبون من أمره، فسرنا ثلاثة أيام وإذا نحن به أمامنا قد تطهر من نهر وطلع، وهو يشهد شهادة الحق، ويجدد إسلامه، فلما رأيناه لم نملك أنفسنا من الفرح والسرور، فنظر إلينا، وقال: يا قوم اعطوني ثوبا طاهرا، فأعطيناه ثوبا، فلبسه،

<<  <   >  >>