ثم صلى وجلس، فقلنا له: الحمد لله الذي ردك علينا، وجمع شملنا بك، فصف لنا ما جرى لك، وكيف كان أمرك؟ فقال يا قوم: لما وليتم من عندي سألته بالوداد القديم، وقلت له يا مولاي أنا المذنب الجاني، فعفا عني بجوده، وبستره غطاني، فقلنا له: بالله نسألك هل كان لمحنتك من سبب؟ قال: نعم. لما وردنا القرية، وجعلتم تدورون حول الكنائس قلت في نفسي: ما قدر هؤلاء عندي، وأنا مؤمن موحّد، فنوديت في سري ليس هذا منك، ولو شئت عرّفناك، ثم أحسست بطائر قد خرج من قلبي، فكان ذلك الطائر هو الإيمان.
قال الشبلي: ففرحنا به فرحا شديدا، وكان يوم دخولنا يوما عظيما مشهودا، وفتحت الزوايا، والرباطات والخوانق، ونزل الخليفة للقاء الشيخ، وأرسل إليه الهدايا، وصار يجتمع عنده لسماع علمه أربعون ألفا، وأقام على ذلك زمانا طويلا ورد الله عليه ما كان نسيه من القرآن والحديث، وزاده على ذلك.
فبينما نحن جلوس عنده في بعض الأيام بعد صلاة الصبح، وإذا نحن بطارق يطرق باب الزاوية، فنظرت من الباب، فإذا شخص ملتف بكساء أسود، فقلت له: ما الذي تريد؟ فقال: قل لشيخكم إن الجارية الرومية التي تركتها بالقرية الفلانية قد جاءت لخدمتك.
قال: فدخلت فعرفت الشيخ، فاصفر لونه وارتعد، ثم أمر بدخولها، فلما دخلت عليه بكت بكاء شديدا، فقال لها الشيخ: كيف كان مجيئك، ومن أوصلك إلى ههنا؟
قالت: يا سيدي لما وليت من قريتنا جاءني من أخبرني بك، فبت ولم يأخذني قرار، فرأيت في منامي شخصا وهو يقول: إن أحببت أن تكوني من المؤمنات، فاتركي ما أنت عليه من عبادة الأصنام، واتبعي ذلك الشيخ، وادخلي في دينه، فقلت: وما دينه؟ قال: دين الإسلام، قلت: وما هو؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فقلت: كيف لي بالوصول إليه؟ قال: اغمضي عينيك، واعطيني يدك، ففعلت، فمشى قليلا، ثم قال:
افتحي عينيك، ففتحتهما، فإذا أنا بشاطىء الدجلة، فقال:
امضي إلى تلك الزاوية، واقرئي مني الشيخ السلام، وقولي له إن أخاك الخضر يسلم عليك، قال: فأدخلها الشيخ إلى جواره، وقال: تعبدي ههنا. فكانت أعبد أهل زمانها تصوم النهار وتقوم الليل حتى نحل جسمها، وتغير لونها، فمرضت مرض الموت، وأشرفت على الوفاة، ومع ذلك لم يرها الشيخ، فقالت: قولوا للشيخ يدخل عليّ قبل الموت، فلما بلغ الشيخ ذلك دخل عليها، فلما رأته بكت، فقال لها: لا تبكي، فإن اجتماعنا غدا في القيامة في دار الكرامة، ثم انتقلت إلى رحمة الله تعالى، فلم يلبث الشيخ بعدها إلا أياما قلائل حتى مات رحمة الله تعالى عليه.
قال الشبلي: فرأيته في المنام، وقد تزوج بسبعين حوراء وأول ما تزوج بالجارية، وهما مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، ذلك الفضل من الله، وكفى بالله عليما. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب الثاني والثلاثون في ذكر الأشرار والفجار وما يرتكبون من الفواحش والوقاحة والسفاهة
عن النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قبل قيام الساعة يرسل الله ريحا باردة طيبة، فتقبض روح كل مؤمن ويبقى شرار الخلق يتهارجون تهارج الحمير، وعليهم تقوم الساعة» . وقال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: كفى بالمرء شرا أن لا يكون صالحا ويقع في الصالحين.
وقال لقمان لابنه: يا بني كذب من قال الشر يطفىء الشر، فإن كان صادقا فليوقد نارين ثم ينظر هل تطفىء إحداهما الأخرى، وإنما يطفىء الشر الخير كما يطفىء الماء النار. ووصف بعضهم رجلا من أهل الشر فقال:
فلان عري من حلة التقوى ومحي عنه طابع الهدى، لا تثنيه يد المراقبة، ولا تكفه خيفة المحاسبة، وهو لدعائم دينه مضيع ولدواعي شيطانه مطيع.
شعر:
كأنّه التيس قد أودى به هرم ... فلا لحم ولا صوف ولا ثمر
وقيل: من فعل ما شاء لقي ما ساء. وقيل: زنى رجل بجارية فأحبلها، فقالوا له: يا عدو الله هلّا إذا ابتليت بفاحشة عزلت؟ قال: قد بلغني أن العزل مكروه، قالوا:
فما بلغك أن الزنا حرام؟