تقربوا إليّ إلا بالجنايات.
وقال علي كرم الله وجهه: إذا قدرت على عدوك، فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه، وقال رضي الله تعالى عنه: أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم، فما يعثر منهم عاثرا إلا ويده بيد الله يرفعه، وقال رضي الله عنه: إن أول عوض الحليم عن حلمه، إن الناس أنصار له على الجاهل.
وقال المنتصر: لذة العفو يلحقها حمد العاقبة، ولذة التشفي «١» يلحقها ذم الندم.
وقال ابن المعتز: لا تشن وجه العفو بالتقريع به «٢» .
وقيل: ما عفا عن الذنب من قرّع به. وقال رجل لرجل سبه: إياك أعني، فقال له، وعنك أعرض.
وكان الأحنف رحمه الله تعالى كثير العفو والحلم وكان يقول: ما آذاني أحد إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث: إن كان فوقي عرفت له فضله، وإن كان مثلي تفضلت عليه، وإن كان دوني أكرمت نفسي عنه. وكان مشهورا بين الناس بالحلم وبذلك ساد عشيرته، وكان يقول: وجدت الاحتمال أنصر لي من الرجال. وقيل له: ممن تعلمت الحلم؟ فقال: من قيس بن عاصم. كنا نختلف إليه في الحلم كما يختلف إلى الفقهاء في الفقه، ولقد حضرت عنده يوما، وقد أتوه بأخ له قد قتل ابنه، فجاءوا به مكتوفا، فقال: ذعرتم أخي أطلقوه، وأحملوا إلى أم ولدي ديته، فإنها ليست من قومنا، ثم أنشأ يقول:
أقول للنفس تصبيرا وتعزية ... إحدى يديّ أصابتني ولم ترد
كلاهما خلف من فقد صاحبه ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي
وقيل: من عادة الكريم إذا قدر غفر، وإذا رأى زلة ستر. وقالوا: ليس من عادة الكرام سرعة الغضب والانتقام. وقيل: من انتقم فقد شفى غيظه، وأخذ حقه، فلم يجب شكره، ولم يحمد في العالمين ذكره. والعرب تقول: لا سؤدد مع الانتقام، والذي يجب على العاقل إذا أمكنه الله تعالى أن لا يجعل العقوبة شيمته «٣» ، وإن كان ولا بد من الانتقام، فليرفق في انتقامه إلا أن يكون حدا من حدود الله تعالى.
وقال المنصور لجان عجز عن العذر: ما هذا الوجوم وعهدي بك خطيبا لسنا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ليس هذا موقف مباهاة، ولكنه موقف توبة، والتوبة بالاستكانة والخضوع، فرق له وعفا عنه.
وسعي إلى المنصور برجل من ولد الأشتر النخعي، ذكر له عنه أنه يميل إلى بني علي والتعصب لهم، فأمر بإحضاره، فلما مثل بين يديه قال: يا أمير المؤمنين، ذنبي أعظم من نقمتك، وعفوك أعظم من ذنبي، ثم قال:
فهبني مسيئا كالذي قلت ظالما ... فعفوا جميلا كي يكون لك الفضل
فإن لم أكن للعفو منك لسوء ما ... أتيت به أهلا فأنت له أهل
فعفا عنه، وأمر له بصلة.
وأحضر إلى المأمون رجل قد أذنب ذنبا، فقال له: أنت الذي فعلت كذا وكذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين أنا ذاك الذي أسرف على نفسه واتكل على عفوك، فعفا عنه وخلى سبيله.
وأحضر إلى الهادي رجل من أصحاب عبد الله بن مالك، فوبخه على ذنب، فقال: يا أمير المؤمنين، إن إقراراي يلزمني ذنبا لم أفعله، ويلحق بي جرما لم أقف عليه، وإنكاري رد عليك، ومعارضة لك، ولكني أقول:
فإن كنت تبغي بالعقاب تشفيّا ... فلا تزهدن عند التجاوز في الأجر
فقال: لله درك من معتذر بحق أو باطل، ما أمضى لسانك، وأثبت جنانك وعفا عنه وخلى سبيله.
وركب يوما عمرو بن العاص رضي الله عنه بغلة له شهباء، ومر على قوم فقال بعضهم: من يقوم للأمير، فيسأله عن أمه وله عشرة آلاف؟ فقال واحد منهم: أنا، فقام وأخذ بعنان بغلته، وقال: أصلح الله الأمير، أنت أكرم الناس خيلا، فلم ركبت دابة أشهابّ وجهها؟ فقال:
إني لا أمل دابتي حتى تملني، ولا أمل رفيقي حتى يملني.
فقال: أصلح الله الأمير، أما العاص فقد عرفناه وعلمنا شرفه، فمن الأم؟ قال: على الخبير سقطت. أمي النابغة بنت حرملة بن عزة سبتها رماح العرب، فأتي بها سوق عكاظ، فبيعت، فاشتراها عبد الله بن جدعان، ووهبها للعاص بن وائل، فولدت، وأنجبت، فإن كان قد جعل لك جعل، فارجع وخذه، وأرسل عنان الدابة. وقيل: إن أمه كانت بغيا عند عبد الله بن جدعان، فوطئها في طهر واحد أبو لهب وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب،