للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والعاص بن وائل، فولدت عمرا، فادعاه كلهم، فحكمت فيه أمه، فقالت: هو للعاص، لأن العاص هو الذي كان ينفق عليها. وقالوا: كان أشبه بأبي سفيان.

وكان الواثق يتشبه بالمأمون في أخلاقه وحلمه، وكان يقال له: المأمون الصغير. نقل عنه أنه دخلت عليه ابنة مروان بن محمد، فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: لست به، فقالت: السلام عليك أيها الأمير، فقال لها، وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، فقالت: ليسعنا عدلكم، فقال: إذا لا يبقى على وجه الأرض منكم أحد لأنكم حاربتم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه، ومنعتم حقه، وسممتم الحسن رضي الله عنه، ونقضتم شرطه، وقتلتم الحسين رضي الله عنه، وسبيتم أهله، ولعنتم علي بن أبي طالب رضي الله عنه على منابركم وضربتم علي بن عبد الله ظلما بسياطكم، فعدلنا لا يبقي منكم أحدا، فقالت: فليسعنا عفوكم، قال: أما هذا، فنعم، وأمر برد أموالها عليها، وبالغ في الإحسان إليها.

وكان معاوية رضي الله عنه يعرف بالحلم، وله فيه أخبار مشهورة وآثار مذكورة، وكان يقول: إني لآنف أن يكون في الأرض جهل لا يسعه حلمي، وذنب لا يسعه عفوي، وحاجة لا يسعها جودي، وهذه مروءة عالية المرتبة. وقال له رجل يوما: ما أشبه أستك بإست أمك، فقال: ذاك الذي أعجب أبا سفيان منها.

وكتب معاوية إلى عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه يعتذر إليه من شيء جرى بينهما، يقول: من معاوية بن أبي سفيان إلى عقيل بن أبي طالب أما بعد، يا بني عبد المطلب، فأنتم والله فروع قصي ولباب عبد مناف وصفوة هاشم، فأين أخلاقكم الراسية وعقولكم الكاسية؟

وقد والله أساء أمير المؤمنين ما كان جرى، ولن يعود لمثله إلى أن يغيّب في الثرى، فكتب إليه عقيل يقول:

صدقت وقلت حقّا غير أني ... أرى أن لا أراك ولا تراني

ولست أقول سوء في صديقي ... ولكنّي أصد إذا جفاني

فركب إليه معاوية رضي الله عنه، وناشده في الصفح عنه، واستعطفه حتى رجع.

وحكي عنه رضي الله عنه أنه لما ولي الخلافة، وانتظمت إليه الأمور وامتلأت منه الصدور، وأذعن لأمره الجمهور، وساعده في مراده القدر المقدور، استحضر ليلة خواص أصحابه وذاكرهم وقائع أيام صفين، ومن كان يتولى كبر الكريهة من المعروفين، فانهمكوا في القول الصحيح والمريض وآل حديثهم إلى من كان يجتهد في إيقاد نار الحرب عليهم بزيادة التحريض، فقالوا: امرأة من أهل الكوفة تسمى الزرقاء بنت عدي كانت تتعمد الوقوف بين الصفوف وترفع صوتها صارخة: يا أصحاب علي، تسمعهم كلاما كالصوارم، مستحثة لهم بقول لو سمعه الجبان لقاتل، والمدبر لقابل، والمسلم لحارب، والفار لكرّ، والمتزلزل لاستقر.

فقال لهم معاوية رضي الله عنكم. أيكم يحفظ كلامها؟

فقالوا: كلنا نحفظه، قال: فما تشيرون عليّ فيها؟ قالوا:

نشير بقتلها، فإنها أهل لذلك. فقال لهم معاوية رضي الله عنه: بئسما أشرتم، وقبحا لما قلتم. أيحسن أن يشتهر عني أنني بعدما ظفرت وقدرت قتلت امرأة قد وفت لصاحبها، إني إذا للئيم، لا والله لا فعلت ذلك أبدا. ثم دعا بكاتبه فكتب كتابا إلى واليه بالكوفة أن أنفذ إليّ الزرقاء بنت عدي مع نفر من عشيرتها وفرسان من قومها، ومهّد لها وطاء لينا ومركبا ذلولا، فلما ورد عليه الكتاب ركب إليها وقرأ عليها، فقالت بعد قراءة الكتاب: ما أنا بزائغة عن الطاعة، فحملها في هودج، وجعل غشاءه خزا مبطنا، ثم أحسن صحبتها، فلما قدمت على معاوية قال لها:

مرحبا وأهلا خير مقدم قدمه وافد، كيف حالك يا خالة، وكيف رأيت سيرك؟ قالت: خير مسير، فقال: هل تعلمين لم بعثت إليك؟ قالت: لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه وتعالى. قال: ألست راكبة الجمل الأحمر يوم صفين، وأنت بين الصفوف توقدين نار الحرب، وتحرضين على القتال؟ قالت: نعم، قال: فما حملك على ذلك؟ قالت يا أمير المؤمنين: إنه قد مات الرأس وبتر الذنب، والدهر ذو غير «١» ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر. فقال:

صدقت، فهل تعرفين كلامك، وتحفظين ما قلت؟ قالت:

لا والله، قال: لله أبوك، فلقد سمعتك تقولين: أيها الناس إن المصباح لا يضيء في الشمس، وأن الكواكب لا تضيء مع القمر، وأن البغل لا يسبق الفرس، ولا يقطع الحديد إلا بالحديد، ألا من استرشدنا أرشدناه، ومن سألنا أخبرناه إن الحق كان يطلب ضالة فأصابها، فصبرا يا معشر المهاجرين والأنصار، فكأنكم وقد التأم شمل الشتات،

<<  <   >  >>