وظهرت كلمة العدل وغلب الحق باطله، فإنه لا يستوي المحق والمبطل، فمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون، فالنزال النزال، والصبر الصبر، ألا وإن خضاب النساء الحناء، وخضاب الرجال الدماء، والصبر خير الأمور عاقبة، ائتوا الحرب غير ناكصين، فهذا يوم له ما بعده. يا زرقاء. أليس هذا قولك وتحريضك؟
قالت: لقد كان ذلك، قال: لقد شاركت عليا في كل دم سفكه، فقالت: أحسن الله بشارتك يا أمير المؤمنين، وأدام سلامتك. مثلك من يبشر بخير ويسر جليسه، فقال معاوية:
أوقد سرك ذلك؟ قالت: نعم، والله لقد سرني قولك وأنى لي بتصديقه، فقال لها معاوية: والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب إليّ من حبكم له في حياته، فاذكري حوائجك تقض.
فقالت يا أمير المؤمنين إني آليت على نفسي أن لا أسأل أحدا بعد علي حاجة، فقال: قد أشار عليّ بعض من عرفك بقتلك، فقالت: لؤم من المشير، ولو أطعته لشاركته، قال: كلا بل نعفو عنك ونحسن إليك ونرعاك، فقالت: يا أمير المؤمنين كرم منك، ومثلك من قدر فعفا، وتجاوز عمن أساء وأعطى من غير مسألة، قال: فأعطاها كسوة ودراهم، وأقطعها ضيعة تغل كل سنة عشرة آلاف درهم، وأعادها إلى وطنها سالمة، وكتب إلى والي الكوفة بالوصية بها وبعشيرتها.
وقيل: كان لعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أرض وكان له فيها عبيد يعملون فيها، وإلى جانبها أرض لمعاوية وفيها أيضا عبيد يعملون فيها، فدخل عبيد معاوية في أرض عبد الله بن الزبير، فكتب عبد الله كتابا إلى معاوية يقول له فيه أما بعد، يا معاوية: إن عبيدك قد دخلوا في أرضي، فانههم عن ذلك، وإلا كان لي ولك شأن، والسلام. فلما وقف معاوية على كتابه، وقرأه دفعه إلى ولده يزيد، فلما قرأه قال له معاوية: يا بني ما ترى؟ قال:
أرى أن تبعث إليه جيشا يكون أوله عنده وآخره عندك يأتونك برأسه. فقال: بل غير ذلك خير منه يا بني، ثم أخذ ورقة، وكتب فيها جواب كتاب عبد الله بن الزبير، يقول فيه: أما بعد، فقد وقفت على كتاب ولد حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساءني ما ساءه، والدنيا بأسره هينة عندي في جنب رضاه، نزلت عن أرضي لك فأضفها إلى أرضك بما فيها من العبيد والأموال والسلام. فلما وقف عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما على كتاب معاوية رضي الله عنه، كتب إليه: قد وقفت على كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، ولا أعدمه الرأي الذي أحله من قريش هذا المحل والسلام.
فلما وقف معاوية على كتاب عبد الله بن الزبير، وقرأه رمى به إلى ابنه يزيد، فلما قرأه تهلل وجهه، وأسفر، فقال له أبوه: يا بني من عفا ساد، ومن حلم عظم، ومن تجاوز استمال إليه القلوب، فإذا ابتليت بشيء من هذه الأدواء فداوه بمثل هذا الدواء.
ولما دخل الفيل من دمشق واجتمع الناس لرؤيته صعد معاوية في مكان مرتفع ينظر إليه، فبينما هو كذلك إذ نظر في بعض الحجر من قصره رجلا مع بعض حرمه، فأتى الحجرة ودق الباب، فلم يكن من فتحه بد، فوقعت عينه على الرجل، فقال له: يا هذا في قصري، وتحت جناحي تهتك حرمتي، وأنت في قبضتي، ما حملك على هذا؟
قال: فبهت «١» الرجل، وقال: حلمك أوقعني، فقال له معاوية، فإن عفوت عنك تسترها عليّ، قال: نعم. فعفا عنه وخلّى سبيله. وهذا من الحلم الواسع أن يطلب الستر من الجاني، وهو عروض قول الشاعر:
إذا مرضتم أتيناكم نعودكم ... وتذنبون فنأتيكم ونعتذر
وحكي عن الربيع مولى الخليفة المنصور قال: ما رأيت رجلا أربط جأشا، وأثبت جنانا من رجل سعي به إلى المنصور، أن عنده ودائع وأموالا لبني أمية، فأمرني بإحضاره، فأحضرته إليه، فقال له المنصور: قد رفع إلينا خبر الودائع، والأموال التي عندك لبني أمية، فأخرج لنا منها، وأحضرها، ولا تكتم منها شيئا، فقال يا أمير المؤمنين، وأنت وارث بني أمية، قال: لا، قال: فوصي لهم في أموالهم ورباعهم؟ قال: لا، قال: فما مسألتك عما في يدي من ذلك؟ قال: فأطرق المنصور، وتفكر ساعة، ثم رفع رأسه وقال: إن بني أمية ظلموا المسلمين فيها، وأنا وكيل المسلمين في حقوقهم، وأريد أن آخذ ما ظلموا المسلمين فيه، فاجعله في بيت أموالهم. فقال: يا أمير المؤمنين، فيحتاج إلى إقامة بيّنة عادلة أن ما في يدي لبني أمية مما خانوه وظلموه، فإن بني أمية قد كانت لهم أموال غير أموال المسلمين. قال: فأطرق المنصور ساعة، ثم رفع رأسه وقال: يا ربيع: ما أرى الشيخ إلا قد صدق، وما يجب عليه شيء، وما يسعنا إلا أن نعفو عما قيل عنه، ثم قال: هل لك من حاجة؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين أن