للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقال له النعمان: ما حملك على الوفاء وفيه إتلاف نفسك؟ فقال ديني فمن لا وفاء فيه لا دين له. فأحسن إليه النعمان ووصله بما أغناه وأعاده مكرما إلى أهله وأناله ما تمناه.

ومن ذلك..

ما حكي أن الخليفة المأمون لما ولّى عبد الله بن طاهر بن الحسين مصر والشام وأطلق حكمه، دخل على المأمون بعض إخوانه يوما فقال: يا أمير المؤمنين إن عبد الله بن طاهر يميل إلى ولد أبي طالب وهواه مع العلويين وكذلك كان أبوه قبله، فحصل عند المأمون شيء من كلام أخيه من جهة عبد الله بن طاهر فتشوش فكره وضاق صدره، فاستحضر شخصا وجعله في زي الزهاد والنساك الغزاة ودسه إلى عبد الله بن طاهر، وقال له:

امض إلى مصر وخالط أهلها وداخل كبراءها واستملهم إلى القاسم بن محمد العلوي. واذكر مناقبه، ثم بعد ذلك اجتمع ببعض بطانة «١» عبد الله بن طاهر ثم اجتمع بعبد الله بن طاهر بعد ذلك وادعه إلى القاسم بن محمد العلوي واكشف باطنه وابحث عن دفين نيّته، وائتني بما تسمع.

ففعل ذلك الرجل ما أمره به المأمون وتوجه إلى مصر ودعا جماعة من أهلها، ثم كتب ورقة لطيفة ودفعها إلى عبد الله بن طاهر وقت ركوبه، فلما نزل من الركوب وجلس في مجلسه خرج الحاجب إليه وأدخله على عبد الله بن طاهر وهو جالس وحده فقال له: لقد فهمت ما قصدت فهات ما عندك، فقال: ولي الأمان؟ قال: نعم.

فأظهر له ما أراده ودعاه إلى القاسم بن محمد، فقال له عبد الله: أو تنصفني فيما أقوله لك؟ قال: نعم. قال: فهل يجب شكر الناس بعضهم لبعض عند الإحسان والمنة؟

قال: نعم، قال: فيجب عليّ وأنا في هذه الحالة التي تراها من الحكم والنعمة والولاية ولي خاتم في المشرق وخاتم في المغرب، وأمري فيما بينهما مطاع وقولي مقبول، ثم إني التفت يمينا وشمالا فأرى نعمة هذا الرجل غامرة وإحسانه فائضا عليّ، أفتدعوني إلى الكفر بهذه النعمة وتقول أغدر وجانب الوفاء. والله لو دعوتني إلى الجنة عيانا لما غدرت، ولما نكثت بيعته وتركت الوفاء له، فسكت الرجل، فقال له عبد الله: والله ما أخاف إلا على نفسك، فارحل من هذا البلد. فلمّا يئس الرجل منه وكشف باطنه وسمع كلامه رجع إلى المأمون، فأخبره بصورة الحال، فسره ذلك، وزاد في إحسانه إليك، وضاعف إنعامه عليه.

ومما يعد من محاسن الشيم ومكارم أخلاق أهل الكرم ويحث على الوفاء بالعهود ورعاية الذمم ما رواه حمزة بن الحسين الفقيه في تاريخه. قال: قال لي أبو الفتح المنطيقي، كنا جلوسا عند كافور الأخشيدي، وهو يومئذ صاحب مصر والشام، وله من البسطة والمكنة، ونفوذ الأمر وعلو القدر وشهرة الذكر ما يتجاوز الوصف والحصر، فحضرت المائدة والطعام، فلما أكلنا نام وانصرفنا، ولما انتبه من نومه طلب جماعة منا، وقال أمضوا الساعة إلى عقبة النجارين، وسلوا عن شيخ منجم أعور كان يقعد هناك، فطن كان حيا، فأحضروه، وإن كان قد توفي فسلوا عن أولاده، واكشفوا أمرهم. قال: فميضنا إلى هناك، وسألنا عنه، فوجدناه قد مات، وترك بنتين إحداهما متزوجة، والأخرى عاتق «٢» .

فرجعنا إلى كافور وأخبرناه بذلك، فسيّر في الحال واشترى لكل واحدة منهما دارا وأعطاهما مالا جزيلا وكسوة فاخرة، وزوّج العاتق، وأجرى على كل واحدة منهما رزقا وأظهر أنهما من المتعلقين به لرعاية أمورهما، فلما فعل ذلك وبالغ فيه ضحك وقال: أتعلمون سبب هذا؟ قلنا لا، فقال: اعلموا أني مررت يوما بوالدهما المنجم، وأنا في ملك ابن عباس الكاتب، وأنا بحالة رثّة، فوقفت عليه، فنظر إليّ واستجلبني وقال: أنت تصير إلى رجل جليل القدر، وتبلغ منه مبلغا كبيرا، وتنال خيرا، ثم طلب مني شيئا، فأعطيته درهمين كانا معي، ولم يكن معي غيرهما، فرمى بهما إليّ وقال: أبشرك بهذه البشارة وتعطيني درهمين؟ ثم قال: وأزيدك أنت والله تملك هذا البلد وأكثر منه، فاذكرني إذا صرت إلى الذي وعدتك به ولا تنس. فقلت له: نعم، فقال: عاهدني أنك تفي لي ولا يشغلك ذلك عن افتقادي، فعاهدته، ولم يأخذ مني الدرهمين.

ثم إني شغلت عنه بما تجدد لي من الأمور والأحوال وصرت إلى هذه المنزلة ونسيت ذلك، فلما أكلنا اليوم ونمت رأيته في المنام قد دخل عليّ، وقال لي: أين الوفاء بالعهد الذي بيني وبينك، وإتمام وعدك؟ لا تغدر، فيغدر بك، فاستيقظت وفعلت ما رأيتم، ثم زاد في إحسانه إلى

<<  <   >  >>