للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بنات المنجم وفاء لوالدهما بما وعده، والله أعلم.

ومما أسفرت عنه وجوه الأوراق وأخبرت به الثقات في الآفاق، وظهرت روايته بالشام والعراق وضرب به الأمثال في الوفاء بالاتفاق، حديث السموأل بن عاديا، وتلخيص معناه، أن أمرأ القيس الكندي لما أراد المضي إلى قيصر ملك الروم أودع عند السموأل دروعا وسلاحا وأمتعة تساوي من المال جملة كثيرة، فلما مات امرؤ القيس أرسل ملك كندة يطلب الدروع والأسلحة المودعة عند السموأل، فقال السموأل: لا أدفعها إلا لمستحقها وأبى أن يدفع إليه منها شيئا. فعاوده، فأبى وقال: لا أغدر بذمتي ولا أخون أمانتي ولا أترك الوفاء والواجب عليّ. فقصده ذلك الملك من كندة بعسكره، فدخل السموأل في حصنه وامتنع به، فحاصره ذلك الملك. وكان ولد السموأل خارج الحصن، فظفر به ذلك الملك، فأخذه أسيرا ثم طاف حول الحصن وصاح بالسموأل، فأشرف عليه من أعلى الحصن، فلما رآه قال له: إن ولدك قد أسرته، وها هو معي، فإن سلمت إليّ الدروع والسلاح التي لامرىء القيس عندك رحلت عنك وسلمت إليك ولدك، وإن امتنعت من ذلك ذبحت ولدك وأنت تنظر، فاختر أيهما شئت. فقال له السموأل: ما كنت لأخفر ذمامي وأبطل وفائي. فاصنع ما شئت، فذبح ولده وهو ينظر، ثم لما عجز عن الحصن رجع خائبا. واحتسب السموأل ذبح ولده وصبر محافظة على وفائه، فلما جاء الموسم وحضر ورثة امرىء القيس سلّم إليهم الدروع والسلاح، ورأى حفظ ذمامه ورعاية وفائه أحب إليه من حياة ولده وبقائه، فسارت الأمثال في الوفاء تضرب بالسموأل، وإذا مدحوا أهل الوفاء في الأنام ذكروا السموأل في الأول. وكم أعلى الوفاء رتبة من اعتقله بيديه وأغلى قيمة من جعله نصب عينيه، واستنطق الأفواه لفاعله بالثناء عليه، واستنطق الأيدي المقبوضة عنه بالإحسان إليه.

ومما وضع في بطون الدفاتر واستحسنته عيون البصائر ونقلته الأصاغر عن الأكابر وتداولته الألسنة من الأوائل والأواخر، ما رواه خادم أمير المؤمنين المأمون، قال:

طلبني أمير المؤمنين ليلة، وقد مضى من الليل ثلثه فقال لي: خذ معك فلانا وفلانا وسمّاهما: أحدهما علي بن محمد، والآخر دينار الخادم، واذهب مسرعا لما أقوله لك، فإنه قد بلغني أن شيخا يحضر ليلا إلى دور البرامكة، وينشد شعرا ويذكرهم ذكرا كثيرا ويندبهم ويبكي عليهم، ثم ينصرف، فامض الآن أنت وعلي ودينار حتى تروا هذه الخرابات، فاستتروا خلف بعض الجدران، فإذا رأيتم الشيخ قد جاء وبكى وندب وأنشد شيئا، فائتوني به. قال:

فأخذتهما ومضينا حتى أتينا الخرابات، وإذا نحن بغلام قد أتى ومعه بساط وكرسي حديد، وإذا شيخ وسيم له جمال وعليه مهابة ووقار قد أقبل، فجلس على الكرسي وجعل يبكي وينتحب ويقول:

ولما رأيت السيف جندل جعفرا ... ونادى مناد للخليفة في يحيى

بكيت على الدنيا وزاد تأسفي ... عليهم وقلت الآن لا تنفع الدنيا

مع أبيات أطالها ورددها، فلما فرغ قبضنا عليه، وقلنا له: أجب أمير المؤمنين، ففزع فزعا شديدا، وقال:

دعوني حتى أوصي وصية، فإني لا أوقن بعدها بحياة. ثم تقدم إلى بعض الدكاكين، فاستفتح، وأخذ ورقة، وكتب فيها وصية ودفعها إلى غلامه، ثم سرنا به، فلما مثل بين يدي أمير المؤمنين زجره، وقال له: من أنت، وبماذا استوجبت البرامكة منك ما تفعله في خرائب دورهم وما تقوله فيها؟ قال الخادم: ونحن وقوف نسمع، فقال:

يا أمير المؤمنين إن للبرامكة عندي أياد خطيرة، أفتأذن لي أن أحدثك حديثي معهم؟ قال: قل. قال: يا أمير المؤمنين أنا المنذر بن المغيرة من أولاد الملوك، وقد زالت عني نعمتي كما تزول عن الرجال، فلما ركبني الدين، واحتجت إلى بيع مسقط رأسي ورؤوس أهلي، أشاروا عليّ بالخروج إلى البرامكة، فخرجت من دمشق ومعي نيف وثلاثون امرأة وصبيا وصبية، وليس معنا ما يباع ولا ما يوهب حتى دخلنا بغداد ونزلنا في بعض المساجد، فدعوت بثويبات لي كنت قد أعددتها لأستمنح بها الناس، فلبستها وخرجت وتركتهم جياعا لا شيء عندهم، ودخلت شوارع بغداد أسأل عن دور البرامكة، فإذا أنا بمسجد مزخرف وفيه مائة شيخ بأحسن زي وزينة وعلى الباب خادمان، فطمعت في القوم وولجت المسجد وجلست بين أيديهم وأنا أقدم وأؤخر والعرق يسيل مني لأنها لم تكن صناعتي «١» ، وإذا بخادم قد أقبل فدعا القوم، فقاموا وأنا معهم، فدخلوا دار يحيى بن خالد، ودخلت معهم، وإذا بيحيى جالس على دكة له في وسط بستان، فسلمنا، وهو يعدنا مائة وواحد وبين يديه عشرة من ولده،

<<  <   >  >>