عدوي؟ فقال: إن نعمة عدوك لقلادة في عنقي لا ينزعها إلا غاسلي، فقال له المنصور ارجع يا شيخ، فإني أشهد أنك لوفي حافظ للخير، ثم أمر له بمال، فأخذه، ثم قال:
والله لولا جلالة أمير المؤمنين وإمضاء طاعته ما لبست لأحد بعد هشام نعمة، فقال له المنصور: لله درك، فلو لم يكن في قومك غيرك لكنت قد أبقيت لهم مجدا مخلدا.
وخرج سليمان بن عبد الملك، ومعه يزيد بن المهلب في بعض جبابين الشام، فإذا امرأة جالسة على قبر تبكي، قال سليمان: فرفعت البرقع عن وجهها، فحكت شمسا عن متون غمامة، فوقفنا متحيرين ننظر إليها، فقال لها يزيد بن المهلب: يا أمة الله: هل لك في أمير المؤمنين بعلا؟ فنظرت إلينا، ثم أنشأت تقول:
فإن تسألاني عن هواي فإنه ... يحول بهذا القبر يا فتيان
وإني لأستحييه والترب بيننا ... كما كنت أستحييه وهو يراني
ومن ذلك: ما روي عن نائلة بنت القرافصة بن الأحوص الكلبي زوج عثمان رضي الله عنهما، أن عثمان لما قتل أصابتها ضربة على يدها، وخطبها معاوية، فردته، وقالت: ما يعجب الرجل مني؟ قالوا: ثناياك «١» ، فكسرت ثناياها، وبعثت بها إلى معاوية، فكان ذلك مما رغّب قريشا في نكاح نساء بني كلب.
ولما أحس مصعب بن الزبير بالقتل دفع إلى مولاه زياد فص ياقوت قيمته ألف ألف، وقال له: إنج بهذا فأخذه زياد ودقه بين حجرين، وقال: والله لا ينتفع به أحد بعدك.
ولما قدم هدبة بن الجشرم للقتل بحضرة مروان بن الحكم، قالت زوجته: إن لهدبة عندي وديعة، فامهله حتى آتيك بها، فقال: أسرعي، فإن الناس قد كثروا، وكان مروان قد جلس لهم بارزا عن داره، فمضت إلى السوق، وأتت إلى قصاب، فقالت: أعطني شفرتك، وخذ هذين الدرهمين، وأنا أردها عليك، فأخذتها وقربت من حائط وأرسلت ملحفها على وجهها، ثم جدعت أنفها من أصله، وقطعت شفتيها وردت الشفرة إلى القصاب. ثم أقبلت حتى دخلت بين الناس، فقالت: أتراني يا هدبة متزوجة بعد ما ترى، فقال: الآن طابت نفسي بالموت، فجزاك الله من حليلة وفية خيرا.
ولنجعل لهذا الباب من القضايا ختاما هو أوجزها كلاما، وأحسنها نظاما، وأبينها حكما وإحكاما، وهي قضية جمعت الأمرين: وفاء وغدرا، وعرفا ونكرا، وخيرا وشرا، ونفعا وضرا، واشتملت على حال شخصين أحدهما وفى بعهده ففاز ونجا وحاز من مقترحات مناه ما أمل ورجا، وغدر الآخر، فلم يجد له من جزاء غدره إلى النجاة فرجا، ولم يلق له من ضيق الغدر مخرجا. وهو ما ذكره عبد الله بن عبد الكريم، وكان مطلعا على أحوال أحمد بن طولون عارفا بأموره عالما بوروده وصدوره، فقال ما معناه:
إن أحمد بن طولون وجد عند سقايته طفلا مطروحا، فالتقطه ورباه وسماه أحمد وشهره باليتيم، فلما كبر ونشأ كان أكثر الناس ذكاء وفطنة، وأحسنهم زيا وصورة، فصار يرعاه ويعلمه حتى تهذب وتمرن، فلما حضرت أحمد بن طولون الوفاة أوصى ولده أبا الجيش خمارويه به، فأخذه إليه، فلما مات أحمد بن طولون أحضره الأمير أبو الجيش إليه، وقال له: أنت عندي بمكانة أرعاك بها، ولكن عادتي إني آخذ العهد على كل من أصرفه في شيء أنه لا يخونني فعاهده، ثم حكمه في أمواله وقدمه في أشغاله، فصار أحمد اليتيم مستحوذا على المقام حاكما على جميع الحاشية الخاص والعام، والأمير أبو الجيش بن طولون يحسن إليه، فلما رأى خدمته متصفة بالنصح ومساعيه متسمة بالنجح ركن إليه، واعتمد في أمور بيوته عليه، فقال له يوما: يا أحمد أمض إلى الحجرة الفلانية ففي المجلس حيث أجلس سبحة جوهر، فائتني بها، فمضى أحمد، فلما دخل الحجرة وجد جارية من مغنيات الأمير وحظاياه مع شاب من الفراشين ممن هو من الأمير بمحل قريب، فلما رأياه خرج الفتى وجاءت الجارية إلى أحمد وعرضت نفسها عليه، ودعته إلى قضاء وطره، فقال لها: معاذ الله أن أخون الأمير وقد أحسن إليّ وأخذ العهد عليّ، ثم تركها، وأخذ السبحة وانصرف إلى الأمير وسلمها إليه. وبقيت الجارية شديدة الخوف من أحمد بعدما أخذ السبحة، وخرج من الحجرة لئلا يذكرها للأمير، فأقامت أياما لم تجد من الأمير ما غيّره عليها. ثم اتفق أن الأمير اشترى جارية وقدمها على حظاياه، وغمرها بعطاياه، واشتغل بها عمن سواها، وأعرض لشغفه بها عن كل من عنده حتى كاد لا يذكر جارية غيرها، ولا يراها، وكان أولا مشغولا بتلك الجارية الخاسرة الخائنة الخائبة الغادرة العائبة العاهرة الفاسقة الفاجرة، فلما أعرض عنها اشتغالا بالجارية