الجديدة الممجدة السعيدة الحامدة المحمودة الوصيفة الموصوفة الأليفة المألوفة العارفة المعروفة، وصرف لبهجة محاسنها وكثرة آدابها وجهه من ملاعبة أترابها، وشغلته بعذوبة رضابها عن ارتشاف رضاب أضرابها، وكانت تلك الجارية الأولى لحسنها متأمرة على تأميره لا تخاف من وليه ولا نصيره، فكبر عليها إعراضه عنها، ونسبت ذلك إلى أحمد اليتيم لاطلاعه على ما كان منها، فدخلت على الأمير وقد ارتدت من الكآبة بجلباب نكرها، وأعلنت بالبكاء بين يديه لإتمام كيدها ومكرها، وقالت:
إن أحمد اليتيم راودني عن نفسي.
فلمّا سمع الأمير ذلك استشاط غيظا وغضبا، وهمّ في الحال بقتله، ثم عاوده حاكم عقله، فتأنى في فعله، واستحضر خادما يعتمد عليه، وقال له: إذا أرسلت إليك إنسانا ومعه طبق من ذهب، وقلت لك على لسانه املأ هذا الطبق مسكا، فاقتل ذلك الإنسان واجعل رأسه في الطبق، وأحضره مغطى، ثم إن الأمير أبا الجيش جلس لشربه، وأحضر عنده ندماءه الخواص، وأدناهم لمجلس قربه، وأحمد اليتيم واقف بين يديه آمن في سربه لم يخطر بخاطره شيء، ولا هجس هاجس في قلبه، فلما مثل بين يدي الأمير، وأخذ منه الشراب شرع في التدبير، فقال يا أحمد: خذ هذا الطبق وامض به إلى فلان الخادم، وقل له يقول لك أمير المؤمنين املأ هذا الطبق مسكا.
فأخذه أحمد اليتيم ومضى، فاجتاز في طريقه بالمغنين وبقية الندماء، والخواص، فقاموا إليه وسألوه الجلوس معهم، فقال: أنا ماض في حاجة للأمير أمرني بإحضارها في هذا الطبق، فقالوا له: أرسل من ينوب عنك في إحضارها وخذها أنت وأدخل بها على الأمير، فأدار عينيه، فرأى الفتى الفراش الذي كان مع الجارية، فأعطاه الطبق، وقال له: إمض إلى فلان الخادم وقل له يقول لك الأمير إملأ هذا الطبق مسكا، فمضى ذلك الفراش إلى الخادم، فذكر له ذلك، فقتله، وقطع رأسه وغطاه وجعله في الطبق، وأقبل به، فناوله لأحمد اليتيم، فأخذه وليس عنده علم من باطن الأمر، فلما دخل به على الأمير كشفه وتأمله وقال: ما هذا؟ فقص عليه خبره وقعوده مع المغنين وبقية الندماء وسؤالهم له الجلوس معهم، وما كان من إنفاذ الطبق، وإرساله مع الفراش، وأنه لا علم عنده غير ما ذكره. قال: أتعرف لهذا الفراش خبر يستوجب به ما جرى عليه؟
فقال: أيها الأمير: إن الذي تم عليه بما ارتكبه من الخيانة، وقد كنت رأيت الإعراض عن إعلام الأمير بذلك، وأخذ أحمد يحدثه بما شاهده وما جرى له من حديث الجارية من أوله إلى آخره، لما أنفذه لإحضار السبحة الجوهر، فدعا الأمير أبو الجيش بتلك الجارية واستقررها، فأقرت بصحة ما ذكره أحمد، فأعطاه إياها، وأمره بقتلها، ففعل، وازدادت مكانة أحمد عنده، وعلت منزلته لديه وضاعف إحسانه إليه، وجعل أزمة جميع ما يتعلق به بيديه.
فانظر رحمك الله إلى آثار الوفاء كيف تحمي من المعاطب، وتنجي من قبضة التلف بعد إمضاء القواضب، ويفضي بصاحبه إلى ارتقاء غوارب المراتب، فهذا الغلام لما وفى لمولاه بعهده، وهو بشر مثله، وليس في الحقيقة بعبده، واطلع الله عز وجل على صدق نيته وقصده دفع عنه هذه القتلة الشنيعة بلطف من عنده، فإذا كان العبد مع خالقه ورازقه وافيا في طاعته بعقده كيف لا يفيض عليه من ألطاف مواهب بره ورفده ويفتح له من أنواع رحمته وأقسام نعمته ما لا ممسك له من بعده، وقالوا: ليس شيء أوفى من القمرية إذا مات ذكرها لم تقرب آخر بعده ولا تزال تنوح عليه إلى أن تموت. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين.
الباب الثامن والثلاثون في كتمان السر وتحصينه وذم إفشائه
قال الله تعالى حكاية عن يعقوب صلوات الله وسلامه عليه: يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ
«١» الآية، فلما أفشى يوسف عليه السلام رؤياه بمشهد امرأة يعقوب أخبرت إخوته، فحل به ما حل. ومن شواهد الكتاب العزيز في السر قوله تعالى؛ فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ١٠
«٢» . وقوله تعالى: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ٢٤
«٣» . أي بمتهم.
وفي الحديث: «استعينوا على قضاء حوائجكم